م.م حكيم سلمان السلطاني – كلية الشيخ الطوسي الجامعة
نشأة الخط العربي
جاء الإسلام والخط غير معروف عند العرب الحجازيين ، فلم يكن يعرف الكتابة إلا نفر قليل، استخدمهم النبي (ص) لكتابة الوحي، وبدأ يحرض المسلمين على تعلم الخط.
وفي ذلك يقول ابن خلدون (ت 808هـ) :(وكان خط العرب لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع)(1).
لكن العرب ممن رحلوا إلى الشام والعراق في تجارة أو سفارة أخذوا يتخلقون بأخلاق تلكم الأمم المتحضرة. فاقتبسوا منهم الكتابة والخط، فعادوا وبعضهم يكتب بالخط النبطي أو بالخط السرياني. وظل الخطان معروفين عند العرب إلى ما بعد الفتح الإسلامي فتخلف عن الأول الخط النسخي ـ وهو المعروف اليوم ـ وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة، وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة، وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام، وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها(2).
ويعلل د. خليل يحيى نامي أخذ عرب الحجاز للخط النبطي لما كان للحجاز من مكانه روحية عند العرب ولاشتغالهم بالتجارة، والمكانة الروحية والتجارة تستدعيان القراءة والكتابة فأخذوها من تجار النبط أثناء ذهابهم إلى بلاد الشام(3).
وأما أخذ أهل مكة خطهم من العراق، فرأي لا يستبعد أيضاً فقد كان عرب العراق يكتبون، ولهم مدارس لتعليم الكتابة ملحقة بالكنائس والأديرة، وقد كان بين أهل مكة وبين عرب العراق ولاسيما الأنبار والحيرة اتصال تجاري وثيق، وكان تجار مكة يأتون بتجارتهم إلى الحيرة ويقيمون بها، فلا يستبعد تعلمهم أو تعلم بعضهم الخط من أهل الحيرة ومن أهل الأنبار(4).
والخلاصة أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء تجارتهم إلى الشام، وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل، وظل الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام، والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معاً: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية، والنبطي لكتابة المراسلات والمكاتبات الاعتيادية.
ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي ـ فضلاً عن شكله ـ أن الألف إذا جاءت حرف مد في وسط الكلمة تحذف، وتلك قاعدة مطردة في الكتابة السريانية، وكان ذلك شائعاً في الإسلام، وخصوصاً في القرآن فيكتبون (الكتب) بدلاً من (الكتاب)، و(الظلمين) بدلاً من (الظالمين)(5).
وقد بقي خطا النسخ والكوفي، هما المعروفان بين المسلمين، يعملون في تطويرهما وتحسينهما حتى بلغ ابن مقلة في مفتتح القرن الرابع الهجري، وأدخل في خط النسخ تحسينات فائقة، وهكذا بلغ الخط النسخي العربي ذروته في الكمال على نحو ما هو عليه الآن.
وظل الخط الكوفي على عكس ازدهار الخط النسخي وتقدمه يتدهور إلى أن هجر تماماً، وكتب المصاحف بعدئذٍ بالخط النسخي الجميل، وقد كانت تكتب بالخط الكوفي نحو قرنين أو أكثر.
في الرسم العثماني
الرسم لغة هو: (الأثر)(6)، ورسم كل شيء أثره، والجمع رسوم، وقد استعير للدلالة على خط المصحف إشارة إلى معنى الأثر القديم(7). وكان استخدام معنى الرسم بهذا المعنى قد ظهر متأخراً على يد أبي عمرو الداني (ت 444هـ) في كتاب (المقنع). وتحدث ابن خلدون (ت 808) عن فن الرسم بقوله: (ربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية)(8). وأطلق عليه القلقشندي(ت821هـ)عدة أسماء(9)، وهي : (المصطلح الرسمي)، أو (الاصطلاح السلفي)، وهو الذي يقابل (المصطلح العرفي) المعتاد عند الناس في كتابة الكلمات. وهو المصطلحات المترادفة ظلت تستعمل للدلالة على الكتابة عامة، إلا مصطلح الرسم المصحفي، الذي كان يعني خط المصحف خاصة(10).
ورسم المصحف كثيراً ما ينسب إلى عثمان بن عفان فيقال الرسم العثماني، لأن جمع القرآن قد تم في عهده فارتبط اسمه بتلك المصاحف التي بعث بها إلى الأمصار وبطريقة الكتابة فيها. وبذلك فإن الرسم العثماني هو ما خطه الصحابة حين نسخوا المصاحف(11)، وليس كما عرفه الزرقاني في كتابه بأنه (الوضع الذي ارتضاه عثمان في كتابة كلمات القرآن وحروفه)(12)، والذي يفهم منه أن هناك عدة رسوم، اختار منها هذا الرسم وترك ما سواه، عدا ما ذكر من ترجيحه لكتابة كلمة (التابوت) بالتاء، بدلاً من الهاء.
وقد كان رسم المصحف مثار اهتمام العلماء، ومحط دراساتهم منذ القرن الإسلامي الثاني فقد أفرده بالتصفيف خلائق من المتقدمين(13) والمتأخرين، وألف فيه العلماء كتباً كثيرة، من هذه الكتب ـ أشير إلى أهمها ـ التي تناولت ذلك:
1ـ المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، لأبي عمرو الداني.
2ـ كتاب النقط، لأبي عمرو الداني.
3ـ عقيلة أتراب القصائد في الرسم، للإمام الشاطبي.
4ـ مورد الظمآن في فنَّي الرسم والضبط، للشريشي الفاسي.
5ـ عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل، لأبي العباس أحمد بن بنا المراكشي.
6ـ دليل الحيران على مورد الضمآن في فنَّي الرسم والضبط، لإبراهيم المراغني التوخي.
لا شك أن الخط وضع ليعبر عن المعنى بنفس اللفظ الذي ينطق به، فالكتابة في الحقيقة قيد للفظ المعبر عن المقصود. وعليه فيجب أن تكون الكتابة مطابقة للفظ المنطوق به تماماً، ليكون الخط مقياساً للفظ من غير زيادة عليه أو نقصان.
بيد أن المصاحف العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها مخالفاً لأداء النطق، ويظهر أن الإصلاحات التي ظهرت على الخط العربي فيما بعد (لم تكن قد كملت بعد في العهد الذي رسم فيه المصحف العثماني. أو لم يكن استخدامها قد انتشر كل الانتشار، أو لم يكن الصحابة ممن رسموا المصحف على علم تام بها، أو أنهم قد تحرجوا من إدخالها في رسم القرآن. فجاءت المصاحف العثمانية مجردة من الإعجام والشكل، ورسمت فيها حروف كثيرة بصورة مضطربة خاطئة، كزيادة الياء في (بأييد)، والألف في (لأاذبحنه) و(لأاوضعوا خلالكم)، والواو في (جزاءو الظالمين)، وحذفت منها الألف كثيراً من الكلمات (الرحمن، السموات، يُقَتلونكم، للكفرين، ميثقكم، بالظلمين، استطعوا، وهجروا، وجهدوا، ومنفع للناس، اليتمى، قنتين، … الخ)، ورسم فيها بعض التاءات المربوطة مفتوحة (نعمت الله … الخ)، واستبدلت فيها حروف بحروف أخرى (والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون)(14).
والذي تؤكده النقوش الأثرية، أن الصحابة كتبوا المصاحف كما يكتب الناس في زمانهم بالقواعد الإملائية التي يعرفونها. فلهذه المسألة جذور تاريخية ترجع إلى الكتابة السريانية التي انحدر منها الخط الكوفي ، وقد كتبوا القرآن الكريم بالخط الكوفي على نفس النهج.
وهذا الرأي هو الذي ترجحه الأدلة الأثرية المكتوبة، التي اكتشفت قبل الإسلام وفي سنواته الأولى، إذ يلاحظ فيها إنقاص الألف، وخلوها من النقط والشكل، وبعض الظواهر الكتابية الأخرى.
ومن الظواهر التي جاءت مخالفة للقواعد الإملائية في الرسم العثماني، حذف الألف، مثل (خئفين، المؤتفكت، أبصر)، وحذف الياء (ارهبون، يؤت، الحوارين)، وحذف الواو (يدع، يستون) وحذف اللام (اليل، الاتي) وحذف النون (نجي، تك)، وزيادة بعض الحروف، كزيادة الألف (لشائ، ابن، لأاذبحنه، تايئسو، ادعوا)، وزيادة الياء (تلقاءى، نبأى، بأييكم، بأييد)، وزيادة الواو (سأوريكم، لأوصلبنكم)، وظاهرة الإبدال، إبدال الياء ألفاً (الأقصا، طغا، رءا، نئا، يحيا، لدا، بشرا)، وإبدال الألف ياء (طحيها، زكيها، اجتبيكم)، وإبدال الألف واواً (الصلوة، الزكوة، الحيوة، الربو، الغدوة)، وإبدال نون التوكيد الخفيف تنويناً (لنسفعا، ليكونا)، وإبدال التاء المربوطة تاء مفتوحة (رحمت، نعمت، امرأت، لعنت، شجرت، سنت) وإبدال السين صاداً (الصراط، يبصط)، وظاهرة كتابة الهمزة (الضعفؤا).
وقد يغلو بعض المتزمتين بالرسم القديم، فيزعمونه توقيفاً كان بأمر النبي (ص) الخاص، ولم يكن للكتبة الأوائل دخل في رسمه بالهيئة الموجودة. وإن وراء هذا المخالفات الإملائية سراً خفياً وحكمة بالغة لا يعلمها إلا الله سبحانه.
وهو ما ادعاه ابن المبارك في نقله عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال: (ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي (ص) وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها، لأسرار لا تهتدي إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضاً معجز)(15).
وقد رد الدكتور الصغير هذا الكلام وبيَّن هزاله من عدة وجوه منها: (أن الرسم المصحفي لم يرد فيه ولا حديث واحد عن النبي (ص) فكيف يكون توقيفياً والنبي أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتهجى، فكيف يتم هذا الغلو بشأنه، بادعاء أن ما كتبوه كان بأمره … والثاني: لو كان الرسم توقيفياً لكانت خطوط كتاب الوحي واحدة وليس الأمر كذلك)(16).
ومن الذين ذهبوا إلى تفسير ظواهر الرسم تفسيراً صوفياً، وأن فيه حكماً خفية، وأسراراً بهية أبو العباس المراكشي (ت 721هـ)، إذ عبر عنها بقوله إن الرسوم (إنما اختلف حالها في الخط، بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها)(17). وكذلك (التنبيه على العوالم الغائب والشاهد، ومراتب الوجود والمقامات)(18).
وإن كان المراكشي قد عرض مذهبه في عبارة قوية وأسلوب جيد، فإنه لم يسلم من النقد، لأن قوة العبارة وجودة الأسلوب لا يمكنهما أن تنصرا مذهبًا، إذا توفرت فيه عوامل الضعف.
وسبب ميل المراكشي إلى هذه الأسرار هو كما قال د. غانم قدوري حمد أنه (كان ذا ميل شديد إلى العلوم الرياضية والعقلية، يتجلى ذلك في مؤلفاته الكثيرة في الفلسفة والمنطق والفلك والأصول ، ثم إنه ذو اتجاه صوفي وجداني، دفعه إلى الانقطاع مدة عن أكل ما فيه روح، وأصيب بحالة عصبية بحالة عصبية بحجب عن بيته سنة وتعافى)(19).
وهذه الأسرار الخفية بعيدة كل البعد عن طبيعة الموضوع، فلم يدر في خلد الصحابة شيء من تلك المعاني الصوفية التي يحاول المراكشي أن يعلل بها رسم كلمات المصحف. فكتابة المصاحف إذن كانت في ضوء ما ألِفه الصحابة من الهجاء واعتادوه من الرسم وذلك قصارى جهدهم، وما ورد فيها من مخالفات إملائية ليس بالشيء الذي يمس سلامة القرآن، فالقرآن هو الذي يقرأ لا الذي يكتب فلتكن الكتابة بأي أسلوب فإنها لا تعني شيئاً ما دامت القراءة باقية على لغتها الأولى التي كانت تقرأ على عهد الرسول (ص) وصحابته الأكرمين.
المصادر:
1ـ مقدمة ابن خلدون 3/ 952. مؤسسة الأعلمي بيروت د.ت.
2ـ ظ: تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان 3/ 58. دار الهلال د.ت.
3ـظ: مجلة كلية الآداب، الجامعة المصرية، مجلد 3، جزء 1/ 102، وما بعدها.
4ـ ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي 8/ 169. ط2 جامعة بغداد 1993م.
5ـ ظ: تاريخ التمدن الإسلامي 3/59.
6ـ ظ: لسان العرب، ابن منظور (رسم) 15/ 132 دار الكتب العلمية بيروت 2005م.
7ـ ظ: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، غانم قدروي حمد. ط1 مؤسسة المطبوعات العربية بيروت 1982م.
8ـ تاريخ ابن خلدون 1/ 791.
9ـ صبح الأعلمي في صناعة الإنشا 3/ 179. القلقشندي (ت 821هـ) المؤسسة المصرية للتأليف والنشر القاهرة 1963م، دار الكتب المصرية 1920م.
10ـ رسم المصحف 157.
الذي يراد من الجمع توحيد الأمة على قراءة واحدة، وتدوين هذه القراءة، ونسخها وإرسالها إلى الأمصار، أما الجمع بين الدفتين فقد تم في زمن رسول الله (ص).
11ـ رسم المصحف 157.
12ـ مناهل العرفان في علوم القرآن 1/ 369. للزرقاني (ت 1367هـ) دار إحياء الكتب العربية القاهرة د. ت.
13ـ ظ: الإتقان ط3 القاهرة 1951م في علوم القرآن، السيوطي 2/ 145. والنشر ابن الجزري (ت 833هـ) دار الكتب العلمية بيروت في القراءات العشر 2/128.
14ـ فقه اللغة، علي عبد الواحد وافي 249ـ 250. ط6 دار النهضة القاهرة.
15ـ مناهل العرفان 1/ 376.
16ـ دراسات قرآنية (تاريخ القرآن) 140ـ 141 محمد حسين الصغير ط2 مكتب الإعلام الإسلامي 1413م.
17ـ البرهان في علوم القرآن، 1/ 380, ط1 دار إحياء الكتب العربية 1957هـ.
18ـ الإتقان 4/145.
19ـ رسم المصحف 229.
(مجلة ينابيع / العدد 59)
16/5/150510
https://telegram.me/buratha