النداء فنٌ من فنون الإبداع في الفهم والتخاطب، وعند أهل اللغة، الصوت وناداه، ونادى به مناداةً ونِداءً، أي: صاحَ به(1).
وفي الاصطلاح هو طلبٌ إقبال المدعو(2).
ويأتي النّداء في القرآن الكريم منفردًا ولا يتكرر في الخطاب القرآني إلا لأمر عظيم. ففي قوله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [المائدة/ 114].
فـ (الّلهمَّ) نداءٌ أوّل و (ربّنا) نداءٌ ثان ولا يجيز سيبويه غيره(3). ولا يجوز أن يكون نعتاً، لأنهُ أشبه الأصوات من أجل ما لحقه.
لقد نادى عيسى(ع) ربّه مرتين، مرةً بوصف الإلوهية الجامعة لجميع الكمالات، ومرةً بوصف الربوبية المنبئة عن التربية، وإظهارًا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء.
والذي دعا عيسى (ع) إلى نداء الله جل وعلا مرتين بسبب ما سبقه من تحدٍ من قومه إذ قالوا له: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ) [المائدة/ 112].
فطلب الحواريون من عيسى (ع) تنزيل مائدة من السماء أي: طلبوا مائدة مادية ليأكلوا منها(4)، ولعظمة الأمر وأهميته ولكونه أمراً خارقاً للعادة، قد حذرهم عيسى (ع) قبل أن ينادي الله سبحانه، فقال لهم: (قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة/ 112]، وفي تفسير هذه الآية الكريمة، قال الثعلبي: (أي تشكّوا في قدرة الله تعالى أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان ولستم بمؤمنين)(5). واجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم الذي له الكمال وقايةً تمنعكم من الاجتراء على الاقتراح فلا تشكّوا في قدرة الله واتقوا أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم السابقة من قبلكم فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان، وبعد فإنكم لا تعلمون ما يفعل الله بكم بعد هذا السؤال(6).
وروي أن عيسى (ع) اغتسل ولبس المِسْح(7)، وصلّى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره ثم قال: الّلهُمَّ رَبَّنا. لقد نادى عيسى ربَّه مرتين ـ وهو في غاية التضرع ـ ومبالغة في الاستدعاء ليتحقق أمرٌ لم يحصل على وجه البسيطة، وهو أمرٌ خارقٌ للعادة ومخالف لنواميس الطبيعة وآية لم تشهد بنو إسرائيل مثلها سابقاً.
ثم يأتي النداء مكررًا في قوله تعالى: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) [يوسف/ 46].
لقد رأى ملك مصر رؤيا عجيبة أهالته: رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السّمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبُّها وسبعاً أخر يابسات قد استُحصدت وأُدرِكت، فالتَوَنْ اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها(8)، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجّامة والعرّافة والسحر(9)، وأشراف دولته والأعيان من العلماء والحكماء فقصَّ عليهم الرؤيا ثمَّ قال: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ) [يوسف/ 43]. وقال أفتوني لتفخيم أمر رؤياه(11).
واستعمل الملك لفظة الإفتاء، والفتيا هو الحكم بما يعمل عليه كما يسأل العامي العالم ليعمل على ما يجيبه به (12).
وعندما طلب أصحاب يوسف (ع) في السجن تأويل رؤياهما قالا له: (نبئنا) أي: أخبرنا، ولم يقولا: أفتنا، إذ الإفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة والحكم المبهم الجواب (13).
وقد قَصَر علم الملأ عن تأويل هذه الرؤيا فلذلك عدّوها من الأحلام، قالوا: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ) [يوسف/ 44] أي المنامات الباطلة التي لا أصل لها.
وبعد أن عجز العلماء والحكماء والسحرة والكهنة عن تأويل هذه الرؤيا التي هالت المملكة (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) [يوسف/ 45]. فأرسلوه فجاء إلى يوسف فناداه فكرر النداء لأهمية الأمر وعظمته زد على ذلك لإقرار المناوئين للسلطة المالكة وإذلالهم وفضح جهلهم.
ويتكرر النداء في الخطاب القرآني في قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران/ 26] قوله (مَالِكَ الْمُلْكِ) أكثر النحويين على أنه منادى مضاف وتقديره: يا مالك الملك. قال النحّاس: (منصوبٌ عند سيبويه على أنه نداءٌ ثانٍ ولا يجوز أن يكون عنده صفة)(14).
وروى الطبري أن النبيَّ (ص) سأل ربّه جلّ ثناؤه أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته فأنزل الله عزّ وجل: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) وذكر الطبري أن تأويل (قُلِ اللَّهُمَّ) قل يا محمد(15).
وهذه الآية نزلت جوابًا لمّا سأل النبي (ص) يجعل لأمته ملك فارس والروم(16). فتكرر النداء في الخطاب لأمر مهم صعب المنال بالنسبة للبشر، وأمر الله النبي(ص) أن يقول (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) حتى يتحقق له مبتغاه، ولعظمة هذا الأمر وأهميته تكرر النداء فضلًا عن ذلك إظهار الهيمنة الإلهية والحاكمية المطلقة على ملكوت السماوات والأرض. فكيف يمكن أن يحصل الرسول على ملك فارس والروم؟ وهو أمرٌ صعب التصديق فقد قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ وهم أعزُّ وأمنع من ذلك، ألا تعجبون؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الغرق(17) لا تستطيعون أن تبرزوا.
ونلحظ تكرار النداء في الخطاب القرآني في قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر/ 46].
قوله: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ) نصب لأنه منادى مضاف وكذا (عَالِمَ الْغَيْبِ) ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتاً (18).
في الآية الكريمة أُمِرَ الرسول (ص) أن يلتجئ إلى الله تعالى بالدعاء بعد أن تحيَّر في أمر الدعوة وضَجَرَ من شدّة شكيمتهم في المكابرة والعِناد، فإنَّ الله هو القادر على الأشياء بجملتها والعالِم بالأحوال برُمَّتها(19).
قال الزمخشريُّ: (بَعِلَ(20) رسول الله (ص) بهم وبشدّة شكيمتهم في الكفر والعِناد، فقيل ادعُ الله بأسمائِهِ العظمى وقل أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم ولا حيلة لغيرك فيهم)(21).
فالقوم قد أصرّوا على الشرك ونفروا عن التوحيد، فلا يقدر أحدٌ على إزالتهم عن هذا الاعتقاد الفاسد والمذهب الباطل إلا أنت(22).
وفي الختام نقول: يأتي النّداء في الخطاب القرآني منفردًا ولا يتكرر إلا لأمر عظيم ومهول، والجدير بالذكر أن تكرُّر النداء في الخطاب القرآني يفضي في النهاية إلى أن يتأكد تحقق طلب المنادي مهما كان صعباً أو مستحيلاً.
هوامش البحث:
1ـ ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 9/ 401، والصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: 6/ 2505.
2ـ ينظر: كشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 1684 .
3ـ ينظر الكتاب: 2/ 196 .
4ـ ينظر الكتاب والقرآن لمحمد شحرور: 72 .
5ـ الكشف والبيان: 2/ 115 .
6ـ ينظر: نظم الدرر 2/ 570، والتبيان في تفسير القرآن: 7/ 60 .
7ـ المِسح: ثوب من الشعر غليظ .
8ـ ينظر: الكشاف: 2/ 471 .
9ـ ينظر: الجامع لأحكام القرآن: 5/ 577 .
10ـ ينظر: البخر المحيط: 5/ 311 .
11ـ ينظر: إرشاد العقل السليم على مزايا الكتاب الكريم: 3/ 398 .
12ـ ينظر: التبيان في تفسير القرآن: 19/ 93، ومجمع البيان: 12/ 409 .
13ـ ينظر: الكشاف: 2/ 472 .
14ـ إعراب القرآن: 1/391 .
15ـ ينظر: جامع التبيان عن تأويل آي القرآن: 3/ 260 .
16ـ ينظر: التبيان في تفسير القرآن: 3/ 431 .
17ـ الغرق: خلاف الجمع.
18ـ ينظر: الكتاب: 2/ 196 .
19ـ ينظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: 5/ 397، 398.
20ـ بَعِلَ الرجلُ: دهش .
21ـ الكشاف: 4/ 56.
22ـ ينظر: الجامع لأحكام القرآن: 26/ 457.
(مجلة ينابيع /العدد 63)
31/5/150517
https://telegram.me/buratha