تطرقنا في مقالات سابقة إلى (قصة قيامة المسيح) وتناولنا تلك القصة من ناحية البحث التاريخي و التأثير السايكوثيولوجي وكذلك تتبعنا نصوص العهد الجديد التي تحدثت عنها, ودرسنا الاختلافات والاضافات التي شهدتها مع مرور الزمن, حيث خضعت تلك القصة للترميم والتطوير المستمر وصولا الى مدونة إنجيل (يوحنا) الذي كان زمن كتابته بعد مرور ما يقارب السبعين عاما على زمان حدوث القصة المزعومة, كما بينا سابقا .
وفي بداية هذا المقال, اود ان اتقدم بالشكر والتقدير للاخوة الاعزاء في قناة ( الكرمة) على تناولهم بالبحث احدى المقالات التي تحدثت عن موضوع القيامة وهو المقال الموسوم ( قصة قيامة المسيح ..كيف بدأت وكيف تطورت)
فقد اتصل بي قبل أكثر من ثلاث اسابيع احد الاصدقاء من كادر القناة, واخبرني انه سيقوم بمناقشة المقال المذكور في برنامجه, مع ترحيبه باي مشاركة او مداخلة معه على الهواء في وقت إذاعة الحلقة
وقد شكرت الاخ بدوري على اهتمامه ومبادرته الكريمة بالاتصال بي, ونظرا لتزامن وقت بث البرنامج مع وقت عملي, فقد حرصت على مشاهدة كامل الحلقات بعد وضعها على اليوتيوب, والتي وصل عددها الى 3 حلقات
الحلقات الثلاثة كان معظمها مكرسا للرد على فقرة واحدة ذكرتها في المقال وهي الفقرة التالية:
( ورغم إيلاء الكنيسة المسيحية الأهمية العظمى لقصة قيامة يسوع المسيح من الموت، باعتبارها حقيقة ثابتة لا تقبل الشك! واعتبار القبول والتسليم بها، من أهم ضروريات الإيمان القويم الذي يجب على جميع البشر الخضوع له، لتجنب الهلاك في الجحيم الأبدي!!..الا أننا لا نجد لهذه القصة المدعاة اي ذكر او أثر في اي نص تاريخي خارج النصوص الدينية المسيحية)
ويبدو ان الاخوة في الإعداد وفريق الدفاع الخاص بالقناة, قد بذلوا جهدهم من اجل اثبات عدم صدقية الكلام المتقدم, حيث حاولوا حشد أكبر عدد ممكن من النصوص التاريخية والتي بلغت 12 نصا , وهي نصوص شهيرة من المفروض ان كل باحث في تاريخ المسيحية , يعرفها ومطلع عليها !!
ومع ذلك , لم تحوي تلك النصوص التي تم عرضها بالبرنامج على أي ذكر لقصة ( قيامة ) المسيح, وإنما كانت تشتمل على ذكر شخص المسيح او حادثة صلبه واضطهاد اتباعه وحريق روما وغيرها من الامور الاخرى التي لم يتطرق لها المقال أساسا !!
رغم انهم حاولوا أن يظهروا امام جمهورهم بمظهر الذي جاء (بالذيب من ذيله !!) من خلال اتباع أسلوب يستخدمه طلبة الثانويات ,حين يأتيهم سؤال عن ( اذني الفيل ) فتجد الطالب الذي لا يملك الاجابة يحاول الظهور أمام المعلم بمظهر الذي يقدم اجابة تملئ ورقة الامتحان , فيقوم بالكتابة حول ( خرطوم الفيل !!!)
والعجيب أيضا, إيراد النص الشهير للمؤرخ (يوسيفيوس) والذي يشكك الكثير من المؤرخين بموثوقية ذلك النص, وقد حاول الاخوة الذين أعدوا الرد ان يدافعوا عن وثاقة ذلك النص والتقليل من شأن الطعون التي أوردها المؤرخون حوله
وسواء كان نص (يوسيفيوس) صحيحا او مدسوسا فهو في الحالتين لا ينفع الاستدلال به, لانه حين ذكر موضوع القيامة, فقد أوردها في سياق ذكر ما يعتقده اتباع المسيح , وليس من باب الإقرار بحدوث تلك الازعومة !
وأطرف ما جاء في الرد ..حين كانت المحاولة الى اللجوء للمنطق من اجل اثبات موضوع القيامة
حيث وجدنا الجواب يستند الى (عكس المنطق) !!!...ووجدنا المطالبة بأن يقدم اليهود دليلا على (عدم) قيامة المسيح...او ان يأتوا بشاهد ينفي قيامته !!!
ان هكذا اسلوب في الاستدلال فيه من الطرافة واثارة الضحك ما يكفي مؤنة عناء الرد عليه !!
وفي الوقت الذي اكرر فيه شكري للاخوة في القناة لاهتمامهم ومناقشتهم للمقال , وكذلك لانهم اثبتوا ( من دون ان يقصدوا) للقراء ولجمهورهم مصداقية ما جاء فيه حول عدم وجود ذكر تاريخي لقصة القيامة خارج النصوص المسيحية, بنفس الوقت أود التأكيد على الاستعداد للاجابة ومناقشة جميع الاسئلة التي طرحوها من باب ( الهجمات المرتدة !!). وأرجو ان تتاح مستقبلا الفرصة للاجابة على كل تلك الاسئلة من خلال نفس المنبر الذي طرحت منه.
وبالعودة الى موضوع المقال , الذي نحاول فيه مناقشة مخرجات و نتائج قصة القيامة, لابد في البداية من التنبيه الى ان مناقشة اوبحث موضوع ما او قصة معينة لا يعني بالضرورة الايمان بتلك القصة او بمقدماتها و نتائجها, وإنما هي محاولة للتحليل والبحث والتفكيك بين ما هو عقائدي وما هو تاريخي.
في هذا المقال سنحاول مناقشة هل ان عودة يسوع الناصري الى الحياة هو حدث فريد ,ليس له نظير في التاريخ؟
وفي حال افترضنا ( جدلا) ان تلك القصة حقيقية ( وفرض المحال ليس بمحال) ...فهل هناك ترابط وتلازم بين عودة ذلك الشخص الى الحياة بعد موته وبين اعتباره كائن الهي يستحق العبادة ؟!!
وكذلك سنتتبع النصوص لنرى هل ان قيامة يسوع المزعومة كانت بقدرته الذاتية ام بقدرة الله الخالق؟
النصوص التي تحدثت عن عودة يسوع الناصري الى الحياة بعد موته, احتوت على نقطة مهمة وجديرة بالاهتمام
حيث اكدت العديد منها وبشكل صريح و واضح ومباشر على ان ( الله) هو الذي أقام يسوع من الموت, وان يسوع الميت قد قام بارادة الله وقدرته
كما جاء على لسان التلميذ (بطرس ) في رسالته الأولى 21/1
(أَنْتُمُ الَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْطَاهُ مَجْدًا، حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي اللهِ)
وكذلك في سفر أعمال الرسل 10/4
(فليكن معلوما عند جميعكم وجميع شعب اسرائيل انه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه انتم الذي اقامه الله من الاموات.بذاك وقف هذا امامكم صحيحا )
وكذلك في نفس السفر 32/2
(فيسوع هذا اقامه الله ونحن جميعا شهود لذلك )
وقد اكد (بولس) على نفس الامر بشكل صريح وواضح في الرسالة الى غلاطية 11
(بولس رسول لا من الناس ولا بانسان بل بيسوع المسيح والله الآب الذي اقامه من الاموات )
وهناك ايضا نصوص عديدة اخرى في ثنايا صفحات العهد الجديد, تشير الى نفس المعنى وتؤكده.
ومن خلال البحث في قصص العهد القديم, نجد ان القيامة من الموت, قد حدثت للعديد من الأشخاص
حيث يروي لنا سفر الملوك الثاني في الاصحاح الثالث عشر العدد 21
ان رجلا ميتا قد عاد الى الحياة ببركة عظام (أليشع )
( وفيما كانوا يدفنون رجلا إذا بهم قد رأوا الغزاة، فطرحوا الرجل في قبر أليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام أليشع عاش وقام على رجليه)
ونفس الامر حدث مع (ابن ارملة صرفة صيدا) الذي قام من الموت وعاد للحياة ببركة دعاء النبي (ايليا) كما جاء في سفر الملوك الأول ( 17- 1924)
ويروي لنا ,كذلك , سفر الملوك الثاني في الإصحاح الرابع كيف ان (أليشع) أقام (ابن المرأة الشونمية) من الموت !!
وإذا ذهبنا الى نصوص العهد الجديد, نجد ايضا, العديد من الحكايات التي تتحدث عن قيام بعض الأشخاص من الموت , والتي من أشهرها قصة قيامة (ليعازر) بعد موته بأربعة أيام,حين تدخل يسوع الناصري,وتضرع الى الله من اجل اقامته
( وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي،
وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي».
وَلَمَّا قَالَ هذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!) يوحنا 11
بالاضافة الى هذه القصة ,نجد في العهد الجديد قصص أخرى , حول أشخاص قاموا من الموت على يد يسوع الناصري , بل هناك اشخاص كانت قيامتهم على يد بطرس وكذلك بولس !
ومن هنا يتبين لنا ان حادثة عودة أحد الموتى الى الحياة ,وحسب نصوص الكتاب المقدس نفسه,لم تكن حادثة فريدة ومختصة بيسوع الناصري فقط, وإنما حدثت لاخرين عديدين غيره , شاءت قدرة الله وإرادته ان تكون عودتهم للحياة اما ببركة دعاء بعض الاشخاص او حتى ببركة عظامهم !
وقد يعترض هنا البعض, ويقول… ان الحوادث المذكورة قام فيها الأموات بعد تدخل اناس ابرار , بينما في حالة يسوع الناصري,الامر مختلف, لانه قام من دون ان يكون هناك تدخل او دعاء من احد !!
وللاجابة على هذا الاعتراض...نؤكد ان هذه الحالة ليست خاصة بيسوع الناصري فقط, فقد حدثت أيضا لغيره, كما يخبرنا بذلك إنجيل ( متى) حين يتحدث عن قيام الاموات من قبورهم ودخولهم لأورشليم أثناء فترة الصلب, حيث كانت قيامة أولئك الأموات أيضا بدون تدخل اي شخص ,وانما تحققا لأمر الله وقدرته
( والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ,وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين) متى 27
وقد يبرز اعتراض آخر,مفاده, أن جميع الأشخاص المذكورين من الذين قاموا من الموت قد ماتوا مرة اخرى, بينما يسوع الناصري لم يمت لحد الان وإنما ارتفع الى السماء
ومجددا, تكون الاجابة ايضا, بأن هذه الميزة ليست مختصة بيسوع الناصري فقط!!
وإنما هناك اشخاص اخرين لم يموتوا وتم رفعهم الى السماء, كما هو الحال مع ( اخنوخ)
(وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ) سفر التكوين 524
حيث نجد (بولس) يفسر هذا النص في الرسالة الى العبرانيين التي ينسبها البعض له, بقوله
(بالايمان نقل اخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لان الله نقله اذ قبل نقله شهد له بانه قد ارضى الله)
ونفس الامر, تكرر مع النبي ( ايليا) الذي جاءت عربة ونقلته الى السماء كما يذكر سفر الملوك الثاني في الإصحاح الثاني منه, حيث لازال حيا , وما زال اليهود يتوقعون رجوعه مرة اخرى.
بعض الاخوة المسيحيين, يحاولون الاستدلال على فردانية قيامة يسوع من خلال الاشارة الى اخبار يسوع نفسه عنها, ويجعلون ذلك دليلا على انه هو الذي أقام نفسه وأنه هو ( الله)
وهذا الاستدلال يحمل من السذاجة والسطحية ما يثير العجب والاستغراب !!
لان من المفروض ان يسوع وحسب نصوص العهد الجديد هو (نبي) ومرسل من الله الآب
فاين التفرد في اخباره عن أحداث مستقبلية, في الوقت الذي تمتلئ صفحات الكتاب المقدس بنبوءات كثيرة عن أحداث مستقبلية جاءت على لسان العديد من الأنبياء؟!
مما تقدم ,وبعد ان تبين لنا ان قصة قيامة يسوع المسيح, ليست حادثة فريدة من نوعها, بل ان هناك العديد من الأشخاص الذين قاموا ايضا من الموت, وكذلك هناك اشخاص اخرين غير يسوع الناصري, ارتفعوا الى السماء وما زالوا هناك احياء….يأتي السؤال الأهم ..وهو :
مالرابط بين عودة يسوع المسيح الى الحياة وبين اعتباره هو الإله الخالق؟
والجواب هو انه لا يوجد اي تلازم منطقي بين الامرين , لانه في حال لزوم ان تكون عودة يسوع المسيح الى الحياة بعد موته, او أن يكون ارتفاعه الى السماء, سببا في اضفاء الصفة الالوهية عليه, ففي هذه الحالة يستوجب الأمر أن يشاركه في صفة الالوهية كل الاشخاص الاخرين الذين اشتركوا معه في صفة القيام من الموت أو صفة الارتفاع الى السماء!!...وفي هذه الحالة نحتاج بدلا عن الاعتقاد بالتثليث الى الاعتقاد بالتسديس او التسبيع...وربما حتى التعشير !!!
إن فكرة قيامة يسوع من الموت , وبعد أن تم ربطها بعقائد اخرى مثل عقيدة الفداء وعقيدة الخلاص
اريد لها ان تكون القاعدة الأساس التي يستند عليها الإيمان المسيحي, ورغم ذلك, فإن هذه القصة بما تحمله من تناقضات و بما شهدته من إضافات وتعديلات وتطور خلال الفترة الزمنية التي دونت فيها سرديات العهد الجديد, بقيت هي الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة في منظومة الميثولوجيا المسيحية.
د. جعفر الحكيم
https://telegram.me/buratha