السيد حسين الصدر
الانسان مفطور على حُبّ ذاتِه ،وحبُّ الذات اذا ما وُظّف ايجابياً ، في مضامير الاستكثار من البِرّ ، والعمل الصالح ، والخدمة الاجتماعيه والوطنيه ،كان سبباً لعلّو الدرجات ،واكتساب الاجر والمثوبات في الآخرة، كما انه سبب للرفعة وعلّو الشأن في الدنيا .....وعلى العكس من ذلك ، حين يُوظّف لصالح المبالغة في الانتفاخ ، والغرور ، والاستعلاء ، والتجبر ، والنظر الى الآخرين نظرة استخفاف واستهجان .انّ حب الذات قد يقود الى تكريس النزعة (الفوقيه) التي تسوّغ لصاحبها النظر الى الآخرين من زاوية (الدونيه) ،والبخس لما عندهم ، وحينئذ يكون مَرَضَاً فتّاكاً ،وتكون له مردودات سلبيه كبرى ،على الصعيد الاخلاقي والانساني والسياسي والوطني .....وحين تلتمع في شخصية معينّه صفات نادره ، ومزايا باهره ، يجب ان لا تُوقع صاحبها في موقع الاحساس بأنه النسخة الفريدة التي لامثيل لها والتي توجب على الناس ان يؤدوا له فروض التسليم بعظماته وأمجاده..!ان بذور التفرعن والتسلط موجوده في نفس كل واحد منّا ،ولكنها لابد ان تلجم .....ان النفوس الكبيرة تأبى الا ان تكون عابقه بشذا التواضع ،والانسانيه ،وتُصرّ على ان تكون السبّاقه في ميادين البذل والتضحيه والايثار والنفع الاجتماعي والوطني ......وتلك هي سيرة الانبياء والأوصياء ،والقادة الربانيين ، والزعماء المصلحين الخالدين .انهم مشاريع انسانيه فاعلة في ميادين البناء والعطاء الثّر على كل الصعد والمستويات .انّ الانتهازيين والإمّعات ،هم الذين يهيئون المناخات الملائمه لنمو النزعات التسلطيه عند هذا الحاكم أو ذاك ، طمعاً في النفاذ الى قلبه، ووصولاً الى ما يريدونه من مكاسب وامتيازات ،ثمناً لتملقهم ومجاراته في مساراته المحمومه .أما المخلصون الواعون ، فهم لا يُغرون أحداً بالباطل ،ولا يُقرّونه على مسار مضطرب مائل ..!!انهم المرايا الصافيه التي تعكس الحقيقه دونما خداع أو تضليل أو دجل..والنرجسيون عادةً لا يميلون الى أصحاب هذا المذاق السليم ،والطبع المستقيم ،وتلك هي مشكلتنا مع (الحواشي) والبطانات المحيطه بالزعماء والرؤساء السياسيين وغيرهم ..!!اذا كنتَ شجاعاً ،فلا يعني ذلك احتكار البطولة ، وجعلها ماركة مسجلةً لك دون سواك ...!!!واذا كنتَ إدارياً حازماً فلا يعني ذلك أنك العملاق وان جميع الاداريين في أجهزه الدولة ومؤسساتها هم أقزام بالنسبه اليك ..!!واذا كنتَ فهيماً ذكياً بارعاً في اعداد الخطط للنهوض بالبلد ، فلا يعني ذلك ان الآخرين هم من العاجزين القاصرين .واذا كنت جواداً سخيّاً ، فلا يعني ذلك انحسار أمواج الكرم والجود عن سواك .انّ عشاق المكارم موجودون في كل زمان ومكان ، وان كانوا قليلين .ان علماء الاخلاق يركزون على وجوب محاسبة النفس ، وايقافها على كل ما تجترح من هفوات وأخطاء وخطايا ، لتبادر الى التدارك والتصحيح...ويرون أنَّ من يرى (الكمال) في نفسه ، فهو (الناقص) ،المغبون ، المحجوب عن مضامير النموّ والتكامل النفسي والروحي والأخلاقي ...ومن المفيد ، ان نذكر هنا حكاية معن بن زائدة الشيباني ، الذي ذاع صيتُه واشتهر بالجود والسخاء ، مَعَ مَنْ حاول القاء القبض عليه ، يوم كان مطلوباً من المنصور العباسي - وأَثْبَتَ له ، أنه أكرمُ منه وهو عبد مغمور ، لانعرف حتى أسمه ...!!!وقد أورد ابن خلكان هذه الحكاية في كتابه وفيات الاعيان ج 3 /ص124 حيث نُقل عن معن قولُه :( ان المنصور جدّ في طلبي ، وجعل لمن يحملني اليه مالاً ، قال :فاضطررت لشدة الطلب الى ان تعرّضتُ للشمس حتى لوحت وجهي ، وخففت عارضيّ ولبست جُبة صوف ، وركبتُ جملاً وخرجتُ متوجهاً الى الباديه لأقيم بها ) وواضح من هذا السياق ان معن حاول اخفاء نفسه ، وتغيير ملامحه خشيه من القبض عليه ..قال :(فلما خرجتُ من باب حرب - وهو أحد أبواب بغداد - تبعني أسود متقلد بسيف ، حتى اذا غبتُ عن الحرس ، قبَضَ على خُطام الجمل فأناخه ، وقبض على يدي فقلتُ له :ما بك ؟ فقال :أنت طلبة أمير المؤمنين ؟ فقلتُ :ومَنْ أنا حتى أطلب ؟ فقال :أنت معن بن زائدة فقلتُ له :يا هذا اتق الله عز وجل ، وأين أنا من معن ؟قال : دع هذا ، فوالله اني لأعرفُ بكَ منكَ ، فلما رايتُ منه الجدّ قلتُ له : هذا جوهر قد حملتُه معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئُه بي ، فخذه ، ولاتكن سبباً في سفك دمي ، قال : هاته ، فأخرجتهُ اليه فنظر فيه ساعة وقال : صدقتَ في قيمته ، ولستُ قابله حتى أسألك عن شيء، فانْ صدقتني أطلقْتُكَ فقلتُ : قل ، قال : ان الناس قد وصفوك بالجود ، فأخبرني هل وهبتَ مالَكَ كلّه قط ؟قلتُ : لاقال : فنصفه ؟قلتُ : لاقال : فثلثُه ؟قلتُ : لا حتى بلغ العشر فاستحييتُ وقلتُ :أظن أني قد فعلتُ هذا ، قال :ما ذاك بعظيم أنا والله راجل ، ورزقي من ابي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماًوهذا الجوهر قيمتُه ألوف دنانيرٍوقد وهبتُه لك ووهبتُك لنفسك ، ولجودك المأثور بين الناس ، ولتعلم أنَّ في هذه الدنيا مَنْ هو أجود منك ،فلا تعجبك نفسك ، ولتحقر بعد هذا كل جودٍ فعلتَه ولا تتوقف عن مكرمة .ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجمل وولى منصرفاً ، فقلتُ :يا هذا ، قد والله فضحتني ، ولَسَفْكُ دمي أهونُ عليّ مما فعلت ، فخذ ما دفعتُه لك فاني غنيّ عنه ، فضحك وقال :أردتَ ان تكذبني في مقالي هذا والله لا أخذتُه ، ولا آخذُ لمعروف ثَمَناً أبداً ومضى لسبيله ....!!! )أقول : ان العبد كان يأنف ان يأخذ على المعروف ثمناً ..!!!ونحن اليوم أمام تسعيرة رهيبة للخدمات ، التي يقدمها السماسرة وأسيادهم للناس ، حيث لا يُسدى المعروف الاّ بثمن غالٍ ،يكاد يكون تعجيزياً في كثير من الأحيان ..!!وانّ حكاية العبد مع معن بن زائدة ،حكايةٌ ذات مداليل ومضامين مهمة ،يجدر بكل مُعجب بذاته ان يقف عندها مليّا لعلها تسهم في تخفيف غلوائه، وتقليص انتفاخاته وكبريائه ...!!!
https://telegram.me/buratha