السيد حسين السيد هادي الصدري
تمهيد :أجد متعةً خاصة ، حين أقرأ ما يكتبه رجال الفكر والسياسة والأدب والصحافة .... من مذكرات ،يسردون فيها حُزَماً من الحكايات ، والوقائع، والقضايا التي واجهتهم عبر مسيرتهم في دروب العلم والنضال، مما أستطيع معه الوقوف على ملامح تلك المراحل ،بكل ما انطوت عليه من أبعاد ، سواءً كانت ايجابيه أم سلبيه .والوقوف على ملامح تلك المراحل التاريخيه ، يُمكّنُنا من ان نعقد المقارنات بين الماضي والحاضر ، ومن خلال ذلك نستطيع ان نتبين موقعنا الحقيقي من التقدم أو التأخر .؟!!وانا حين اكتب هذا العمود (من التاريخ الى الجغرافيه )،لا استعرض الحوادث من زاوية تاريخيه بحته ، وانما استنطق تلك الحوادث ، لأنتزع منها ما يمكّن ان يشكّل الاضاءات الحقيقيه الكاشفة عن طرق تعاطي المسؤولين مع المواطنين ،ومقدار الرعاية لحقوق الانسان العراقي ومقدار الالتزام بالمعايير الموضوعيه ، بعيداً عن حسابات العواطف والعلاقات الشخصيه ....إن أسوأ ما يُمنى به المجتمع من حيف ، هو غياب التطبيق السليم للقانون ، وتغليب (الروابط) على (الضوابط) الأمر الذي يجعل المجتمع في حالة فوضى مرعبه ، واختلالٍ بيّن ،يحرمه من ان يتذوق طعم السعادة والارتياح رحلتي مع الأيام وقد وقع بيدي مؤخراً كتاب (رحلتي مع الأيام ) وهي مذكرات المرحوم الاستاذ عبد الرزاق الظاهر (1907 - 2003 ) الشخصيه السياسيه الوطنيه العراقيه المعروفه -وقد أوصى الراحل ان لا تطبع مذكراته الا بعد وفاته ( تجنباً من المسائلة من قبل النظام السابق ) على حد ما ذكرتْه ابنتُه أسماء ، في كلمة العائلة، المنشورة في صفحات الكتاب الأولى .وحسناً فعل حين حدّثنا عن كثير من مفردات مراحله الدراسيه .وفي ص 19 ، سلّط الضوء على دراسته الجامعيه ، وفي كلية الحقوق تحديداً فقال :(مستواها آنذاك كان في غاية الضعف ،والاساتذة من كبار الموظفين ، بعضهم يرغبون في التدريس باعتباره مورداً اضافياً "" وكان يدّرس "المجلة" رجلٌ توفي الى رحمة الله ،لا يُحسن قراءة "القاعدة الكليّة في المجله " ولا يفهم معناها حرفاً واحداً )أقول :اذا كان كبار الموظفين يمارسون التدريس في كليه الحقوق ، من أجل الحصول على ايراد جديد يضيفونه الى ايراداتهم ،تحسينا لأحوالهم وأوضاعهم المعيشيه ،فانهم لايذمون على ذلك ولا ينتقدون ،لأنهم جعلوا العمل وبذل الجهود ، وسيلتهم للحصول على المال .بينما اختار القراصنه واللصوص المبثوثون في مختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها اليوم ، طريق النهب ،والاستحواذ دون وجه مشروع،على الثروات الوطنيه ، ناهيك عما يبرمونه من عقود وهميه ..!!واين السراق من الساعين لتحسين الارزاق ؟نعم انهم يلامون على تصديهم للتدريس دون ان يملكوا أهليته ، ودون ان تكون لهم القدرة والمؤهلات للقيام بمهامه ، وهذا ما يشاركهم فيه اليوم عامة أصحاب الشهادات المزورة ، الشاغلين للمناصب المهمة ، والكثير ممن دفعتهم المحاصصات لاحتلال مواقعهم، دون ان تكون لهم الكفاءة المطلوبه ...!!!ومن هنا نفهم أنَّ أيَّ خلل في الهيكل الوظيفي ، يؤدي الى ألوان من المفارقات والكوارث المحزنه ....وانّ تلك الثغرات هي السبب ، في تسلل مَنْ يتسلل الى المواقع والمناصب المهمة دون ان يكون مناسباً لها ان قاعدة " وضع الرجل المناسب في الموضع المناسب " منتهكة الحرمات منذ زمن بعيد ..!!وانه لأمر مؤسف للغايه ، ان يتكرر الخطأ ولا يُتعظ بالتجارب !!وأما المجلة ، فيقصد بها "مجلة الأحكام العدليه "التي كانت المحاكم تعتمدها في عموم الأقطار التابعه للسلطنة العثمانيه، وبقيت سائدة المفعول في العراق ، حتى اصدار القانون المدني العراقي .لقد كان الراحل عبد الرزاق الظاهر وبعض زملائه ،يسخرون من بعض الاساتذه غير الاكفاء وكانوا "يُسمعونهم ما يكرهون من التقريع " وقد انتقم اولئك الاساتذة منهم "ورسب العدد الأكبر منهم في دروسهم "حلول المشكلات حين أحسن الظاهر وزملاؤه بالغَبْن ،لما لحقهم رفعوا شكواهم الى رئيس الديوان الملكي - وهو آنذاك رشيد عالي الكيلاني - ،وقد أفهمهم المرحوم السيد باقر الحسني رئيس التشريفات ،انه يحسن بهم عرض شكواهم على الملك فيصل الاول نفسه .يقول الظاهر (ويبدو ان ذلك جرى بايعازٍ من الملك ، لأنه أراد ان يتحقق من الأمر بنفسه )وهكذا تمت مقابلة الملك ،وشرح الظاهر وأحد زملائه مشكلتهم، ثم استدعى الملك اولئك الاساتذة ،وكانت النتيجة ان تم اقصاؤهم من كرسيّ الاستاذيه الى وظائف صغيرة في دوائر اخرى " وهكذا انتهت المهزلة والرواية " يقول الظاهر :" اسقطونا مرة واحدة، واسقطناهم طيلة عمرهم " .ان القارئ لا يكاد لا يصّدق ان مسألة بهذا الحجم الصغير ، وهو الاعتراض المقدّم من قبل بعض طلاب كلية الحقوق على نتائج امتحاناتهم، يوليها المسؤولون من العناية ما يوصلها الى أعلى الهرم ، ويتصدى الملك فيصل الأول بنفسه ، للوقوف على تفاصيل المشكلة ، وحين يتأكد الملك من صدق الطلاب في شكواهم ، يأمر بإبعاد اولئك الاساتذه عن حرم كلية الحقوق ،ولكنه لا يتركهم للبطالة والجوع ،وانما يدفع بهم الى الوظائف التي يستحقونها ..!!!ان العدالة كانت تأخذ مجراها دون تلكؤ وابطاء .وان المواطن المظلوم كان يجد مَنْ يصغي لشكواه ، ويعمل على حل مشكلاته .أما أصحاب الشكاوى والظلامات من المواطنين العراقيين اليوم ، فهم محجوبون عن الوصول الى أكثر المسؤولين ، وليس الكبار منهم فقط، وليس ثمة من يفتح لهم بابه ويصغي الى شكواهم ..!!وهذا يعني اننا بَدَلَ ان نمضي قُدُما في تكثيف برامج رعايتنا لحقوق الانسان العراقي ، ونحدث النقله النوعيه ، تَراجَعْنا الى الوراء ، ولامسنا أدنى المستويات وهذا من أخطر المؤشرات السلبيه على الأطلاق .اننا نجدد الدعوة للاهتمام بالمواطن العراقي - أيّا كان دينهُ ومذهبهُ وعرقه واتجاهه، فالدولة يجب ان تكون دولة المواطنين لا دولة المسؤولين وان على المسؤولين ان يبذلوا كل ما بوسعهم لخدمة المواطنين ،وعلى كل الصعد والمستويات، والعلاقة القويه بين (المواطن) و(المسؤول) هي أساس الاستقرار ، وعماد الأمان ،وعنوان الرقي والازدهار .
https://telegram.me/buratha