بقلم : محمد ابو النواعير _ النجف الأشرف
لم يكن مفهوم السياسة عند القدماء يحمل المعنى الذي درج الناس في الزمن الحاضر على التعامل معه , فقد كانت السياسة عند القدماء تمثل في أصولها المبدئية معنى السَوس للناس أي القيادة , لذا نجد أن معظم تراث الأقدمين كان يحمل مفاهيم تطبق في السياسة هي اقرب للاخلاق وإصلاح النفس والملك , وإصلاح المجتمع , منها الى مفاهيم السياسة الحديثة المبنية على أسس ومناهج تميل الى تغليب المصلحة الخاصة للفرد , او للحزب , أو حتى للبلد . وقد اختلف كثيرا في مفهوم الفضيلة المتعلقة بالعمل السياسي , ومدى تداخل القيميات الدينية في المفاهيم السياسية في الوقت الحاضر . وكان نتيجة هذه الإختلافات بروز قوى وحركات وأحزاب في القرن الماضي , كانت تهدف الى إقامة الدولة الدينية , والتمكين من حاكمية رجل الدين . والذي تمكن من هذه الأحزاب أن يمتلك السلطة إصطدم بجدار الواقعية السياسية وعدم توفر القياس الدقيق للمتطلبات التعاطي التبادلي ما بين الجمهور , وما بين السلطة ( الدينية ) . فحركات اللاهوت السياسي , ولقربها من مصادر التشريع السماوي , ولتمكنها من فرصة تطبيق النظرية على العمل السياسي الواقعي , نجدها عند وصولها الى السلطة تتحمل إستحقاقات أكثر كلفة من غيرها , وذلك لأن شعاراتها أدعى للمسائلة , ودعاواها أعصى على الإحتواء أو المخاتلة أو التدجين . من هذا المنطلق , يتناول المثقفين في العراق , وعوام الناس أيضا , قضية تطبيق المثل العليا لأحزاب المعارضة , تلك المثل التي كانت تعد عند أهلها بمرتبة المقدس الذي لا يجوز تغييره . وهنا جاءت الصدمة , فقد شاهد المواطن العراقي لدى الكثير من رجال السلطة الحاكمين حبا ونزوعا نحو الإبتعاد عن المثل العليا التي كانوا يؤمنون بها أيام المعارضة والتي كانت تعتبر عندهم الزاد النضالي الذي يتزود منه . بل والأدهى تحول هذه المثالية لدى معظم سياسيي البلد من مثالية أخلاقية تدعو الى أخلقة السياسة , الى مثالية شخصية تبحث عن تحقيق ذواتها وشخوصها . فكأن للسياسي ورجل الدولة هم واحد فقط , هو تحقيق المنفعة الشخصية في كل ما يبدر منه , على صعيد العمل او الأفكار . وهنا لسنا بصدد الدفاع عن جهة معينة , وبصرف النظر عن التوصيف الإسمي لما سبق ذكره , نبحث اليوم عن جهة إمتلكت مقدارا من الصدق في تصدير مواقفها السياسية , وصدقا في وحدوية الخطاب السياسي الذي تميزت به , محاولة ان تخضع الفعل السياسي والعمل السياسي الى مبادئها الأخلاقية , وليس إخضاع مبادئها بحسب الضرورات والمتغيرات السياسية . لقد كان بروز تجمع فرسان الأمل ( التجمع السياسي النخبوي ) هو بروز ناتج عن أزمات عصفت بالبلد , ولا يتبادر الى الذهن أن المقصد هو الأزمات السياسية أو الإقتصادية أو الأمنية , وإن كانت هذه لها أهمية كبيرة , ولكنها ازمات نشأت عن فقدان ناصية العمل السياسي لشخوص قادة كفوئين , مسلحين بالكفاءة في العمل , وبالإنضباط الأخلاقي المجتمعي والديني . وهنا نلحظ الخطوة التمييزية لفكرة مشروع الفرسان , فمشروع الفرسان لم يكن مجرد مشروع تطويري , بقدر ما سيكون في هذه المرحلة مشروعا تأسيسيا . وقد يسأل البعض , أي نوع من التأسيس أقصد . حقيقة لقد بدا واضحا لأصحاب التخصص في العمل السياسي أن السياسة في العراق تعاني من ازمة عدم توفر الأخلاق السياسية عند معظم أفرادها , وقد يسأل البعض : وهل ان للسياسة أخلاق ؟ نعم , للسياسة أخلاق إذا تم التعاطي بها من قبل اناس أختيروا لهذا الأمر , أنا لا أقصد ولا أدعو هنا الى أسلمة السياسة , أو تدين السياسة , ولكني ادعو الى السياسة المتدينة , التي ينحو أصحابها نحو نقل الإيمان بالقيم الأخلاقية الى قلوب الحكام , أو نقل الحكم الى أيدي المؤمنين , وصولا لخلق الموازنة بين أهل الأخلاق والكلمة الصادقة والوعد الذي يوفى من قبل صاحبه وأهل الدنيا , ومعالجة الخلل الناشئ بين شعار المصلحة الشخصية , وشعار إقامة مفهوم أمة متكاملة واعية وهنا يظهر لنا جليا أزلية الصراع والتقاطع مابين الشعار والواقع , أو القول والفعل , أو النظرية والتطبيق , والذي هو حقيقة إمتداد طبيعي لأزلية الصراع بين الحق والمصلحة , او بين القوة والرحمة , أو بين الهداية والعدالة , او بين رجل الأخلاق ورجل الدولة , أو بين الخلافة والإمامة , او بين تطويع الأخلاق لمصلحة السياسة , أو تطويع السياسة لمبادئ الأخلاق . يقول السيد عمار الحكيم ( إن الهدف من إيجاد مشروع فرسان الأمل هو تنظيم حال الأمة والسير بها نحو التألق , وأن نتمكن من بناء دولة عصرية حديثة ؟ ونبني منظومة أخلاقية متماسكة تنسجم مع هويتنا وتراثنا . ولكي نحقق هذا الهدف فنحن معنيون بأن نتعرف على رجالنا ونميز الكفء عن غيره , ونعرف كل واحد من أبنائنا , وإخواننا , ما هي مؤهلاته ؟ حينما نتحدث عن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب , علينا ان نعرف من هو الرجل المناسب , والمرأة المناسبة ) ليسهل تأهيلهم والدفع بهم للمواقع القيادية في هذا البلد . فتجمع فرسان الأمل إذا مبني على ضوابط قيمية هدفها التعرف على الطاقات , والكفاءات , القادرة على أن تنهض بمسؤولية قيادة الشعب . وما أريد التأكيد عليه أن فكرة تنظيم فرسان الأمل فكرة قامت وترسخت على أهم مبدأ , ألا وهو مبدأ الإيثار وتغليب المصلحة العامة لمشروع إقامة الدولة العصرية الحديثة , على الغايات والمطامع الضيقة , والوصوليات التي قد يتصف بها البعض , او قد يعتقد البعض بأن تجمع الفرسان هي المنفذ الذي يستطيع ان يصل به الى مطامعه . لقد كانت فكرة إقامة الدولة العصرية من الأفكار التي تحتاج الى تأسيس سياسي صحيح , مبني على إختيار شخوص أكفاء , يجمعهم هدف واحد يسعون الى تحقيقه . وغالبا ما كانت تصطدم هذه الفكرة , وفي بلد كالعراق , بمشكلة شخصنة الأمور . حيث كانت لشخصنة الأمور , سواء على صعيد شخصنتها من موقع الخلاف التربوي , أو شخصنتها من حيث المنافع الفردية , إنما تمثل حجر العثرة في أي مشروع تنموي او إقتصادي أو تربوي في العراق , والمشكلة في موضوع الشخصنة , أنها تمثل بداية مرض يتحول الى حالة عرضية شديدة التأثير على الواقع السياسي , وعدوى مكانية وزمانية قد يساهم إنتشارها المتسارع الى إنهيار أخلاقيات فئة كبيرة من المجتمع . ومن اكثر العوامل بنظري , والتي ساهمت في تأخر قيام الدولة الحديثة في العراق هو طغيان النزعة الوشائجية القبلية على تفكير الإنسان العراقي . فقد كانت هذه النزعة خاضعة للمتوارث الراكد الذي أبقته في خانة الجماعات المحكومة بسلطة قبيلة / عشائرية , تخضع حياتها لنسق قيمي تقليدي يلزم بتعارفات سلوكية يلعب العرف الدور الأكبر في حزم نزاعاتها , ففي حدود العرف العشائري , يكون ( العرف ) حاكما في حدود المكانية التابعة لشخوص إعتبارية متنفذة . فهل سيمثل مشروع فرسان الأمل حالة التعافي السياسي في العراق , عن طريق حظور فاعل لنخب مجتمعية منتقاة بعناية , يكون دورهم شغل حيز الفراغ والمساهمة في الحظور السياسي , لكي لا تترسخ قضية ترك السياسة والدولة قصرا وحصرا كشأن يدور ويدار بين من يفكر وبين من يقرر . أم سنكتفي بحالات الإنفتاح التي جاءت واردة الى بلدنا , جاءت من الآخر ( الثقافي ) , عبر تعبئة تثقيفية ( إعلامية , سياسية , علمية , فكرية , إقتصادية ) . وذلك مرض آخر أصاب السياسة العراقية , وإن كنت لا أنكر وجود قصورا ذاتيا تميزنا به , فنحن وعلى مر المرحلة التأريخية المعاصرة , توحدنا في المشكلات , ولم نتوحد في الحلول , نتمترس خلف مفهوم الحفاظ على الهوية والحيلولة دون الإختراق , تاركين في الوقت نفسه وسائل الإصلاح والتطوير وتوظيف المستورد , مما قادنا ولعقود طويلة الوقوع بين فكي فوبيا المؤامرات ....
https://telegram.me/buratha