حسين دويج الجابري
ترتبط إدارة المصالح الخاصة والعامة في العرف السياسي بإدارة الأزمات والقدرة على المراوغة في ملفات الفساد . وان ظهور الأزمات السياسية بأوزانها المتباينة بين الأحيان المتقاربة في معظم دول العالم ما هي إلا رهانات وأرباح وخسائر . ولهذا أصبح السياسي الناجح هو ذلك القادر على تصيد عثرات زملائه وحلفائه وجمعها في خزانات محصنة وبعيدة عن يد غيرة ليلوح بها عندما تستدعي الضرورة . وان هذا التقليد الكلاسيكي ليس وليد مرحلة بعينها ولايمكن أن يعرف زمن ابتكاره كونه ثبت عبر التاريخ عند الأمم والحضارات الغابرة .
وغالبا ما تستدعي الأزمات السياسية التدخلات الإقليمية التي تنجذب الى الأزمة الكبيرة هربا من ضغوطات وأزمات في بلدانها وللتصيد في المياه العكرة عن فرصة سانحة تعطيها مكاسب وامتيازات مادية ومعنوية . غير إن هذه الشكل الذي لايبدوا إن غيرة يلوح في أفق السياسة العالمية يدمر المواطن ويحرمه من ابسط حقوقه في العيش بسلام وكرامة في بلده .
وان دول الشرق والشرق الأوسط وأفريقيا وأجزاء كبيرة من أوربا والأمريكيتان تعيش فوق مراجل من نار . وان الهدوء النسبي في التصعيد بقضية كشمير بين الهند وباكستان وفي قضية طالبان في أفغانستان وبين الخمير الحمر في كمبوديا وبين أزمة روسيا والشيشان وفي البوسنة وصربيا والأزمة البريطانية الايرلندية وأزمة جزر الفوكلاند بين الأرجنتين وبريطانيا أيضا ومشاكل الأعراق في الولايات المتحدة والمشاكل بين البروتستانت والكاثوليك ناهيك عن ما بين السنة والشيعة والأتراك ومعضلة إبادة الأرمن , وغيرها الكثير من الأزمات الكبيرة التي سادت الشاشات والصحف وتفاعل معها الرأي العام كلا حسب حجمه , ثم طويت بإشارات من السياسيين لتركن فوق الرفوف حتى يأتي من يؤججها من جديد ويحقق من خلالها مكاسب جديدة .
إن هذا الهدوء ما هو إلا فترات دعه وحلول بسيطة لم ترقى الى الحل النهائي . ذلك لان المشروع المصلحي لا يقبل أن تنتهي هذه الأزمات بشكل نهائي , وما الربيع العربي إلا مثالا واضحا عن انجلاء الرماد لتطل النار الكامنة والتي خبئت منذ آماد طويلة بعد أن تصور البعض إن الدكتاتوريات العربية قضت وبشكل نهائي على التناحرات المذهبية والعرقية في المنطقة وساد الاعتقاد بان الشعوب العربية أكثر تماسكا واقل مشاكل ولكن الاعتقاد بان هذه الشعوب متفوقة ذهنيا لم يدر في خلد العالم الآخر . وفي العراق وقف الواقع السياسي عند حدود تصعيد الأزمات واللعب بالنار لتطبيق أجندات خارجية . وهذا القدر فرض من قبل تأسيس الدولة العراقية وحتى يومنا هذا . وربما يعترض الكثيرون عندما أقول بان الدكتاتورية كانت من أكثر الفترات السياسية خلوا من التصعيدات الإعلامية . والظاهر إن ثقافة الرأي الناضج والاعتدال على أساس المصالح العامة في الديمقراطية العراقية في حقبتيها الأولى في العهد الملكي والثانية بعد العام 2003 لم تصل بنا لغير المراهقة السياسية .. بل إن المرحلة الجديدة جاءت بسياسيين هواة يفتقر اغلبهم إلى ثقافة التأسيس الفكرية والحقوقية والسياسية ويهتمون بتشريع مصالحهم الشخصية والفئوية .إن التشابك والتصعيد الإعلامي وجدولة الأزمات للظهور في فترات محسوبة للوقوف أمام من يحاول العمل بمنطق الاعتدال تدل على جملة من المعاني في مقدمتها خيانة الوطن والمواطن . وما التحشيد الطائفي بين هذه الكتلة و تلك إلا دليل قاطع على غباء سياسيو العراق وقصر منظارهم الذي يؤسس إلى تقسيم البلد وتحطيم الإنسان بلا دراية أو وعي . وللأسف هم يتصورون إن المنهج الطائفي الأقدر على حشد الأصوات والتأثير في العراقيين وفي الانتخابات وفي الاستقطاب بغض النظر عن مخاطر تقسيم المجتمع وتقسيم العراق وتقسيم ما يتقسم إلى وحدات وعشائر ومحلات وأحزاب وجماعات بحيث يصبح (الطيف العراقي) الذي شغف به السياسيون ظلاما وتصبح (المكونات) التي رددها السياسيون درابين وأزقة اصغر مائة مرة من دويلات الطوائف
وللأسف إن منظمات المجتمع المدني تتخبط بين مشروعيتها ومقبوليتها في الأوساط الشعبية وبين مصالح أفرادها . وهذا نذير بان البلاد في طريقها إلى هاوية خطيرة إذا لم تتداركها رحمة الله . والداهية الأعظم إن العراقي لم يعد يشعر انه فرد في مجتمع، دع عنك شعوره بالمواطنة. فالعراقي لم يعد عراقيا في مجتمع وإنما فرد منفصل، ولذلك يكاد الحب أن ينقرض بين العراقيين. وهذه حقيقة اجتماعية وسياسية واضحة. لم يعد العراقي في بغداد أو الموصل أو البصرة (موحدا) في هوية وطنية اسمها العراق. ولم يعد العراقي في بلاد المهجر يشعر أن هناك وطنا له اسمه العراق. قد يكون كثير منهم يمتلكون وطنا(سابقا) لكنهم لم يعودوا عراقيين قادرين على العودة والعيش في وطنهم. من يحب من؟ هل حزب الدعوة يحب المجلس الأعلى؟أو الحزب الديمقراطي الكردستاني يحب الاتحاد الوطني الكردستاني؟ هل الحزب الإسلامي يحب حزب الدعوة ؟ أم حركة الوفاق تحب التيار الصدري؟ لا أتحدث عن المناورات السياسية، وإنما أتحدث عن الأهداف الوطنية. لا أتحدث عن الخلافات الشخصية والحزبية وإنما أتحدث عن الصراعات الوطنية الكبرى التي تهدد العراق.لماذا يصر السياسيون على تفعيل ثقافة احتقار الشعب لنفسه ؟ لماذا يرسخون ثقافة إن العراقي منافق ؟ لماذا يتهمون العراقي بأنه غير مؤهل للعدل والسلام والتطور والتمتع بالحياة والديمقراطية وسيادة القانون ؟ ولماذا سادت الفكرة التي تقول بان العراقي لايمكن أن يعيش إلا في ظل نظام دكتاتوري ؟ إن إعادة النظر بالعقد الاجتماعي بين الشعب والدولة قضية ذات أهمية كبرى وربما تكون المنقذ الوحيد لهذه الامه من الانهيار . وإعادة النظر تبدأ من تحرك المجتمع المدني بتعديل هذا العقد وجعل الشعب أقوى من السلطة، وتحقيق معادلة أن المجتمع المدني جزء من الدولة وليس جزء من السلطة وإنما هو رديف للسلطة ومواز لها. وهذا يعني أن يعيد الشعب النظر بدوره ولا يقصره على الانتخابات وإنما يواصل دوره بعد الانتخابات عن طريق منظماته المدنية. وهنا لابد أن ينبري الشهداء المثقفون الذين أهدافهم تسموا على كل شيء ليقودوا المجتمع ...
الحقيقة إن الواقع يتجه منحدرا إلى هاوية سحيقة . وان الخلاص لايكون إلا بإعادة ميزان القوى لصالح المجتمع المدني ...
https://telegram.me/buratha