المقالات

المنهج التاريخي عند العلامة علي الوردي

826 14:04:00 2012-05-21

الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي

مقدمة:يقف أستاذنا العلامة علي الوردي موقفاً تحليلياً من الحدث التاريخي إلى جانب الموقف السردي، وهو ينحو في هذا الاتجاه منحى الفلاسفة أكثر مما يذهب إليه المؤرخين في العرض الشكلي لملامح الحدث التاريخي، وهو لا يكتفي بان يكون التاريخ حدث وزمان ومكان، بل انه يستعين بكل العناصر الاخرى، الاجتماعية والاقتصادية والنفسية ولا يغفل مستوى الوعي الفردي والجمعي، يخضع كل تلك العناصر للبحث والتحليل، لتكوين صورة أكثر واقعية لرسم شكل الواقعة التاريخية ويقوم بتحليل معطياتها ونتائجها على خلفية الرؤية الاجتماعية للحدث ولهذا يمكن إعتبار بحوثه أقرب للدراسات الابستمولوجية، بل هي كذلك بالتأكيد. فالحس التاريخي عند الوردي لا ينبع فقط من قدراته الفكرية في علمي التاريخ والاجتماع والمزاوجة بينهما، ولكن من موقفه التحليلي لنسيج الحدث ولانه يشعر بمسؤولية تجاه الواقع وان يكون جزء من هذا الحدث وإن تباعد عنه زمنياً، وما ذلك إلا لإدراكه أثر الانسان في صناعة التاريخ.قد يكون أبن خلدون حاضراً في ذهنية أستاذنا العلامة الوردي وهو مما لاشك فيه لولعه به، ولانه اعتبره مؤسساً للكثير من النظريات التي ناقشها الوردي أو إهتم بها. ولكننا في فهم تنظيراته لابد من مراعاة قضيتين مهمتين في سيرته: الاولى: ولادته في الكاظمية عام (1913م) من اسرة متوسطة يعود نسبها الى الرسول الخاتم (ص) في مدينة ذات خلفية دينية. مما انعكس على أدبه وأخلاقة وتواضعه مع كثرة علمه وسعة مداركه بما لا يقاس في ابناء جيله.الثانية: درجاته العلمية الماجستير (1947م) والدكتوراه (1950م) من جامعة تكساس في الولايات المتحدة. واثر ذلك في تشكيل ذهنيته التحليلية العميقة.في الواقع فان هذه الدراسة الموجزه إنما هي جزء من دراسة اوسع بنفس العنوان تناقش وتحلل المنهج التاريخي عند أستاذنا العلامة الوردي. لمئوية ميلاده.الواقع الاجتماعي للتاريخ:في مهزلة العقل البشري لا يتناول الوردي فقط الحدث التاريخي للصراع بعد وفاة الرسول الخاتم (ص) وتركيز الخلاف بين أتباع الامام علي بن ابي طالب (رض) وعمر بن الخطاب، أو احداث مقتل عثمان بن عفان، والموقف من الطبقة المترفة التي أرادت إستغلال السلطة، وهي ذات الطروحات التي عرضها في كتابه (وعاظ السلاطين). وهو لا يناقش الخلاف السياسي والعقائدي بين أطراف الحدث، ولكنه يحدد موقفه التاريخي من خلال الصراع الاجتماعي ومستوى الوعي باعتبار ان التاريخ عند الوردي تاريخ إجتماعي بالمقام الاول.من هنا نراه يعيد تقييم الحدث عبر رؤياه الاجتماعية، لانه أرادنا ان نفهم الواقعة التاريخية كما حدثت في وقت وقوعها وفق التاثيرات الفكرية والعقائدية والاجتماعية وليس وفق منظورنا المعاصر، فالمعيارية عند استاذنا الوردي تقوم على فهم الحدث وفق معايير عصر وقوعه ليتسنى لنا إدراك الجوانب الخفية فيه.ولكن هل كان الوردي متجنياً على التاريخ؟ من الخطأ قول ذلك لانه بقي متجرداً في موقفه مما اعطى لنظرته مصداقية شاهد العيان، وهو لا يغفل تأثير التركيبة التكوينية للمجتمع في صناعة الحدث وفي صياغة نتائجه حتى وإن كانت هذه النتائج غير منظورة في زمن الحدث.وهو لا يكتفي بذلك بل يطرح ويناقش العديد من القضايا التي تترك آثارها في بناء وحركة المجتمع مثل قضية البداوة والتمدن وذلك الصراع بين الريف والمدينة، وأثر التكوينات القبلية والعشائرية، وأيضا قضية اللغة والاداب والشعر، وهو يحلل تأثيرات أهتمام الخلفاء والحكام بالشعر والشعراء مما صبغ التاريخ العربي والاسلامي بهذا الاهتمام. فالشعر ليس مجرد واجهة إعلامية وفنية بقدر ما هو صفات نفسية وفكرية تعكس شخصية الافراد والمجتمعات فتحفز او تضعف مستوى الوعي وفق الاتجاه والغايات التي يتبناها الشعراء، او ما يملى عليهم من منظور يمثل رأي الحاكم أو رغباته في تحديد العلاقة بينه والمجتمع.مفهوم الشخصية:في لمحات أجتماعية من تاريخ العراق الحديث يحلل الاستاذ الوردي شخصية المجتمع عبر حركة التاريخ الحديث، وهو لايستخرج رؤياه هذه من من إنعكاسات الحوادث بقدر ما يستخرجها من تجربة الحدث وهو يستعرض الوقائع ويحللها ثم ليدون عليها أرائه، ففي الجزء الثاني يستعرض الصراع بين القديم والحديث ليستخرج منه تراكيب شخصية المجتمع وتطورات الشخصة او تداعياتها من خلال مناقشته للحوادث في عصر علي رضا باشا، ونجيب باشا وشخصية قرة العين.في الجزء الثالث مثلا يستعرض الواقع الاجتماعي في ولاية عبد الحميد الثاني وتراكمات الحدث قبيل الحرب العالمية الاولى، لكنه يركز أكثر على تأثير الحدث في تشكيل شخصة الافراد والمجتمعات، وهو يخلص الى ظاهرة (ازدواج الشخصية العراقية)، التي عرض ملامحها في محاضرة القاها عام 1951م في العهد الملكي في قاعة الملكة علياء وقتها. يقول استاذنا: " أنه لاحظ بعد دراسة طويلة إن شخصية الفرد العراقي فيها شيء من الازدواجية " وهو يعزو ذلك الى عدم تطابق سلوكه العام مع أعتقاداته، ومن هنا نرا يقول: " وأن العراقي سامحه الله أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوته إليها في كتاباته وخطاباته ولكنهفي الوقت نفسه من أكثر الناس إنحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته ".في تقديري ان هذا الموقف فيه كثير من الانحياز أو التجني ربما لان استاذنا الوردي قد عانى نفسه من بعض سلوكيات الافراد وخاصة انه عمل في التجارة في مقتبل حياته، ولكن المهم عندنا انه يفصل بين مفهوم الشخصية بين علمي النفس والاجتماع فيقول: " وينبغي أن لا ننسى بان للشخصية مفهوما في علم النفس يختلف عن مفهومنا في علم الاجتماع وعلم الحضارة " ويضيف : " ولكن علماء الاجتماع يضيفون الى ذلك بان الشخصية في الكثير من وجوهها ممثلة للمجتمع وهو يكادون يجمعون اليوم على ان الفرد والمجتمع ما هما إلا وجهين لحقيقة واحدة ". قد نتفق مع استاذنا الجليل في تحليلاته المعمقة لكننا لابد ان لا ننسى أن هذه الاراء قيلت في مرحلة تاريخية وإجتماعية تختلف نوعاً ما عن واقعنا الحالي، مع الاخذ بالاعتبار ان الواقعي الحالي نفسه لا يخلو من هذه الاشكالات في طبيعة الشخصية التي عرضها استاذنا العلامة. حيث ان منهجنا في التحليل التاريخي يقول باهمية الحدث والواقع الاجتماعي والتاريخي لعصر وقوعه.التاريخ وحركة المجتمع:أن هذا التقارب الوثيق بين التاريخ والاجتماع عند العلامة الوردي يجعله في مصاف علماء الحضارة في التصنيف العلمي، فهو كان يرسم الكثير من الخطوط حيث يتقاطع التاريخ الحضاري مع علم الاجتماع بشكل يجعل التفريق بينهما يكاد ان يكون مستحيلاً، ويمكن القول ان نزعته الحضارية تظهر ملامحها في علم الاجتماع والعكس صحيح. وهذا الموقف لا يكشف فقط عن طبيعة علاقة العلمين ببعضهما الآخر، بقدر ما يكشف عمق ذهنية العلامة الوردي، حين يكون العمق التاريخي محركاً للعامل الاجتماعي، في حين يكون الفرد ذاته والمجتمع ككل احد عناصر حركة التاريخ لان الفرد والمجتمع عنصران متداخلان في مفهوم الوردي، وعندما نجده يركز على التاريخي الحضاري للعراق واثره على المجتمع العراقي، فلانه اراد تقديم منظور يخص التاريخ العراقي ومجتمعه ولكنه لا يختزل التاريخ في حيز الزمان والمكان المحددين، ولهذا نراه يعيد تقييم الحدث التاريخي ولكن من منظور اجتماعي، فبقدر ما يكون تسلسل الحدث مهماً فان موقعه ضمن دائرة الاحداث وتاثيراته تعكس جوانب اهميته، بل ضرورتها.وحينما يكون العراق كنزاً للإرث الحضاري فان التداعي الاجتماعي للواقع في التاريخ يشكل جزء من مفردات الحدث وقد سعى الوردي الى تجسيد هذه الفكرة في مؤلفاته بشكل عميق لانه آمن بها، واستطاع ان يعيد صياغتها مرة بعد أخرى.أما عدم فهم البعض لفلسفة الوردي الاجتماعية في حركة التاريخ فلان الوردي كشف الجانب الاخر من عناصر الشخصية وعلاقتها بحركة التاريخ وهذه النظرة العميقة كانت احدى أسرار فلسفته الذاتية في تحديد المفاهيم وأعادة تقويمها.وبالتالي فان العلامة الوردي قد تمكن من ان يحرك بركة الصمت في المجتمع العراقي لانه أدرك أنه جزء من هذا المجتمع ولم يتعالى عليه.

الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukالمملكة المتحدة - لندن

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
سعيد الاسدي
2012-05-23
الأخ الدكتور وليد سعيد البياتي , لم اتوقع من جنابكم الكريم الرد على الاخوان الدكتور محمد علي الحسني وقاسم سالم اللذين قالا الحق فيما يخص الوردي , ومن الذي قال بانه متجرداً في افكاره وطروحاته , رأي غريب من جنابكم الكريم , الحمد لله الذي عرفتك يا دكتور من خلال مقالتك الموسومة هذه , لا تأخذك العزة بالاثم , وشكراً , ارجوك لا تتعدى حدودك وتنتقد الحوزة العلمية
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
2012-05-22
الاخوين الكريمين الدكتور محمد علي الحسني، وقاسم سالم رعاكما الله في البدء احب ان اقول اننا والكثير من جيلنا كنا من طلاب العلامة الوردي، والرجل كان متجرداً في افكاره وطروحاته عن اتباع حزب او هوية ما لانه كان يقول ان استقلالية العالم مهمة في صياغة افكاره،وهو اراد ان ينقل تاريخ الحدث كما هو في عصر الحدث من موقف اجتماعي لاغير، واما وعاظ السلاطين فما اكثرهم هذه الايام إلا الندرة النادرة في الحوزات العلمية. ولهذا انا ادعوكم لاعادة قراة الرجل بفكر متجرد عن الاهواء لكما مودتي
قاسم سالم
2012-05-22
لم اجد في التاريخ العراقي من يعاني عقدة الاستصغار والحقارة والتعالي على المجتمع كما هو الحال مع الوردي صاحب الافكار المتناقضة الشاذة لاسيما تلك التي خص بها المجتمع العراقي مع انه عبارة عن عدة مجتمعات اولا ومع ان لااساس علمي لاختلاف مجتمع عن اخر من حيث التكوين او الخلقة . فضلا عن موقفه المتخلف من الدين ونظرياته التي ثبت زيفها وتهافتها حول الدين والمذهبية. لم نعرف الوردي الا بسبب (من قلة الخيل..)!
الدكتور محمد علي الحسني
2012-05-22
أخي الدكتور وليد البياتي , ما هذا المديح للوردي , يرجى اعادة قرائة كتبه مرة أخرى وبتمعن , لترى من هو الوردي , وما هو موقفه من الشيعة , انا لا أريد التجني على الرجل , وكتبه متوفرة في كل مكان , وبامكان القارئ العزيز الاطلاع عليها , وانشاء الله سوف اقوم بايراد نصوص من كتبه مستقبلاً , الرجاء من الاخوة الحكم على الاشخاص من خلال مواقفهم تجاه أهل البيت عليهم السلام , لا على اساس موقعهم , وشكراً .
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك