حافظ آل بشارة
اذا قلت لي ان العراق من اكثر دول المنطقة فسادا اقول لك : هو ليس اكثرها فسادا بل قد يكون اقلها فسادا لكنه من أكثرها افتضاحا ، فساد الدول المحيطة بالعراق فساد سري ممنوع التحدث عنه ووسائل الاعلام اغلبها مملوكة للدولة ، والوسائل القليلة الحرة مملوكة لها سرا فهي صحف (ظل) للسلطة ، فمن يكشف الفساد اذن ؟ كما ان الفاسدين العرب في عواصمهم الفقيرة لديهم تجربة في الفساد تمتد الى عشرات السنين فهم طيلة هذه العقود يحملون وينقلون سرا وعلانية وبانتظام فاعتادوا على التحميل واعتاد شعبهم ، واكسبتهم السنوات اشباعا وقناعات وانتظاما في النقل والتحميل والخزن خارج البلد ، ولتقادم هذا الفن عندهم اصبح مهملا من قبل الناس ولا يحمل شحنة الاثارة الكافية ، فالمجتمع العربي هو مجتمع الموجة التي تثور وتتسع وتركبها الملايين ثم تتضائل وتتراجع رويدا لينتقل الجمهور الدائخ الغاضب الى موجة جديدة اكثر غرابة ونشاطا ، الحكام بارعون في فن المشاغلة واختلاق الموجات التحشيدية لالهاء الناس عما يفترسهم من جوع وذل ومصادرة للحقوق واهانة للكرامات ، ملف فساد الحكومات في المنطقة ملف سري وبين الحين والآخر يتم كشف بعض اجزاءه بحذر لا متصاص غضب الجمهور او للاطاحة بأحد الرؤوس الشريكة السرية لاسباب تتعلق بالتنافس ، ويجري غدر الشريك واخماد صوته قبل ان يتكلم بما يفضح به الشركاء ، فاذا كانت سرقات اخواننا العراقيين في السلطة تتجاوز المليارات فسرقات رجال السلطة في بعض العواصم العربية هي اكبر من هذه الارقام لكن بوجود النظام البوليسي ، والستار الحديدي وانعدام السلطة الرقابية وانعدام الصحافة الحرة ، يجري التستر على هذه الملفات الكارثية لتبقى مجهولة في سجلات الحكام وسجلات المصارف الاجنبية التي تروي العجائب حول اصحابها ، ولا يظهر في الاعلام الا الوجه المشرق للحاكم العربي الذي تعززه قصائد الشعراء العاملين بأجور واغاني الغجر المأجورين وتملق صغار الساسة والشعراء ولاحسي الصحون في البلاط ، في اجواء كهذه لا يعد الفساد فسادا ، فسرقة اموال الشعب هي حق مقدس وموروث للحاكم والمواطن لا يملك شيئا ، وان ظهرت احيانا في الاعلام شعارات الحرية والديمقراطية والمبادئ والقيم وصور من تواضع وزهد وشجاعة الرئيس المعظم فهي مجرد طقوس لشرعنة السرقة وفساد الحاكمين ووضعهم فوق القانون وفوق الدستور والقيم الاخلاقية ، مجتمع العبيد العربي لا يمكن ان تظهر في اجواءه عمليات كشف لفضائح الفساد الحكومي . عندنا في العراق يوميا تمتلئ الفضائيات والصحف والمواقع الالكترونية والاذاعات باخبار فضائح الفساد المالي والاداري والاخلاقي ويوميا تطرح اقوى الاسماء من وزراء الحكومة وحتى رئيسها كاسماء مرشحة للمسائلة امام مجلس النواب حول ارقام السرقات المالية التي تتعلق بالمسؤولين ، وضوح كامل وشفافية مبالغ بها ووسائل اعلام جريئة ترهب رجال السلطة ومراسلون ومحررون وكتاب ورجال قضاء ووجهاء مجتمع ورموز احزاب مختلفة المشارب والعقائد كلهم متفقون على متابعة اشكال الفساد القائم في الدولة ومؤسساتها ، فضح الفساد وجمع الوثائق والارقام وادراج عشرات الاسماء من وزراء ووكلاء ومدراء وحتى نواب وكبار الموظفين في قائمة الاتهام الاعلامي اليس هو وجه مشرق للمؤسسة الاعلامية العراقية ، اذهب الى اي بلد عربي اتحداك ان تجد صحيفة قادرة على ذكر اسم مسؤول حكومي فاسد وذكر الارقام المتعلقة بفضيحته كما يجري في العراق ، اذهب هناك لن تجد برلمانا يدعو الوزراء ويوجه لهم لائحة تهم ويدعوهم الى الدفاع عن انفسهم ، لن تجد برلمانا عربيا ان وجد يهدد رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب واي وزير بدعوته للمسائلة القانونية ثم حجب الثقة عنه ، في بلد كهذا صحيح ان الفساد كثير الا انه عاجز عن التخفي وعاجز عن توفير الستر الكافي لنفسه ، اللصوص وان كانوا بمستوى وزراء او مدراء غير قادرين على توفير حصانة لهم امام الاعلام العراقي المتعدد المنابر المتعدد المشارب الذي يعول دائما على شجاعة الصحفيين وليس اي ضمانات من الحكومة ، سلطة رابعة تعمل لدينا لكنها مفقودة في عالم العرب . المواطن يعجبه سماع اخبار فضائح الفساد فيسارع الى سماع النشرات الفضائية والصحف والمواقع باحثا عن الفساد وفضائحه متلذذا بقراءته ، كشف فضائح الفساد اصبح في العراق قيمة خبرية لا يضحي بها اصحاب الصحف . خلاصة القول ان عواصم المنطقة ليست اطهر جيبا ولا انقى سريرة ولا انزه ولا اشرف من مسؤولينا في العراق بل هم اشد انغماسا في مستنقع الفساد لكن السرية والخفاء المحكم هي التي تهيمن على شؤون الحكومة ، اما في بلدنا فقد تكون السرقات اقل ، واللصوص اكثر سذاجة واقل وقارا ولا يمتلكون تجربة طويلة في اللغف واللهف واللفط ، وربما يلفطون بطرق بدائية الا ان كارثة الفساد تبدو اكبر حجما في العراق لانها مكشوفة ومتداولة في اجهزة الاعلام وبين الناس ولا توجد اسرار كثيرة في ملف فسادنا العراقي ، شفافية شبه كاملة وبرلمان فاعل ومراقب وخصوم يتابعون بعضهم ويتصيدون فضائحهم الصغيرة والكبيرة وينشرونها في الاعلام ، ظاهرة الفساد في العراق لها وجه مشرق كونها ظاهرة مكشوفة وكل مكشوف قابل للاصلاح ، اما فساد دول المنطقة فهو سري ، محمي بمنظومات بوليسية معمرة فايهما أخطر وايهما يمكن ان ينتهي فيفنى ويفنى اهله ؟ الفساد عندنا عدو واضح قد يقرر الشعب ذات يوم تشكيل مقاومة شريفة لمقاتلة الفساد لأنه اسوأ من الاحتلال واخطر من الارهاب ، فيكون العراق اول دول المنطقة تحررا من الفساد كما كان اولها تحررا من الدكتاتورية .
https://telegram.me/buratha