بقلم:رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب العراقي الشيخ الدكتور همام حمودي
يقول أرباب التاريخ والاجتماع إن الأزمات والتحديات كما تصنع الرجال تصنع الأمم، وقال اجدادنا ان الضرب الذي لا يؤذي يقوي، واقر علماء السياسة ان الازمات السياسسة في الانظمة البرلمانية، متعارفة ومتوقعة، وانها لا تشكل خطرا على النظام، على خلاف الازمات السياسية في الانظمة الرئاسية والشمولية وغير الديمقراطية، فانها تهدد اصل النظام، لذا يعتبرها الحاكمون في هذه الانظمة مؤامرة يجب استئصالها قبل ان تطيح بهم، لذا لا نجد في مثل هذه الانظمة ازمات سياسية في تشكيل حكومة او اختيار وزراء او ما شابه، وانما مؤامرات تم القضاء عليها او انجازات وانتصارات.
واستنادا الى هذه المقولات التاريخية والاجتماعية والسياسية، فان الازمة السياسية التي يمر بها العراق لا تشكل خطرا وإن طالت وتعقدت وامتد بها الزمن، حيث برزت من بعد انتخابات اذار 2010 الى يومنا هذا وقد تمتد الى نهاية الدورة النيابية الحالية. فمثل هذه الازمات قد مرت بها انظمة مشابهة، وخاصة تلك البلدان التي تتميز بتعدد مكوناتها القومية والدينية والمذهبية، كالعراق. فبالأمس كانت أزمة تشكيل الحكومة في لبنان وقبلها في بلجيكا؛ هذا قدر واستحقاق الانظمة الديمقراطية البرلمانية، وقدر واستحقاق التعددية السياسية والاثنية والدينية فيها.
ان الازمات السياسية كما انها لا تشكل خطرا على النظام الديمقراطي البرلماني فانها ايضا لا تشكل عائقا امام عمل الحكومة وسير حركة ونشاط الدولة بمختلف سلطاتها واجهزتها، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بل ان العراق ضرب مثلا رائعا في قدرة الانظمة البرلمانية على الانجاز وتجاوز التحديات الخطيرة، فرغم وجود الازمة السياسية وتعقيدها ومرورها بمسارات حساسة، وغياب وزراء في وزارات مهمة، فان النظام البرلماني العراقي استطاع ان يحقق انجازا تاريخيا سيسجل لصالح العراق وشعبه ونظامه، الا وهو اخراج القوات الاجنبية (المحتلة) وباجماع وطني قل نظيره، والنجاح في عقد مؤتمر قمة الجامعة العربية، ودخول العراق رغم اوضاعه الداخلية غير المستقرة على ملفات اقليمية ودولية حساسة كالملف النووي الايراني في اجتماع (1+5) في بغداد، والملف السوري، وملف النفط وما شابه. ان انظمة رئاسية وغير ديمقراطية لا تستطيع ان تنجز عشر ما حققه العراق لو مر بأزمة سياسية ابسط من هذه الازمة.ولا عجب فان تجربة النظام الديمقراطي في لبنان وقدرته على تجاوز الازمات والتحديات الخطيرة، رغم ازماته السياسية وتعدد مكوناته، فقد استطاع هذا النظام ان يواجه تحدي الاحتلال الاسرائيلي وعدوانه، والانتصار في كل معاركه رغم ضعفه ومحدودية قدرته. وامتاز بهذه الانجازات عن انظمة رئاسية عتيدة ومتمكنة عسكريا، كما وان النظام الديمقراطي اللبناني يعد من الانظمة الفريدة في منطقتنا العربية في ديموقراطيتها وفي قدرتها على الاستمرار والبقاء رغم التحديات والمشاكل التي مر بها، على خلاف كثير من الانظمة العربية التي نشأت بعد الحرب العالمية الاولى ولم توفق في الاستمرار والنمو، كالعراق، ومصر، وباقي الانظمة العربية.هذه هي طبيعة الانظمة الديمقراطية البرلمانية، في البلدان ذات المكونات المتعددة حيث تولّد الازمات وتتعايش معها وتتكيف لها، وتتقوى بها، وتتغلب على التحديات من خلالها. اما ما يمكن ان تفرزه الازمات السياسية من اثار واستحقاقات على النظام والمجتمع فهي كثيرة، منها ما يكون سلبيا ومنها ما يكون ايجابيا، ولما كان المبنى في هذا المقال بيان ايجابيات الازمة فنقول:ـ ان التلاسن والتراشق بين السياسيين وما يكشفه بعضهم عن بعض عبر الاعلام من امور مستورة ومخفية، ومواجهة بعضهم للآخر بالتضعيف والتسقيط وتسجيل بعضهم على الآخر نقاطا في تجاوزاته للدستور والقانون ومصالح الشعب، ستكون محصلته ان يصبح قسمٌ كبيرٌ من المسؤولين في الحكومة وكبار شخصيات الدولة ومن لهم موقع الصدارة، في دائرة الاتهام والشك، وربما السقوط، وبعد كل ازمة وتراشق، تتساقط المحاباة، والطلاسم ، والاصباغ والالوان، والتي يختفي تحتها حقيقة شخصيات السياسيين والمسؤولين الكبار، وسيبدون امام الشعب انهم اناس عاديون كباقي الناس مكشوفين وتحت ضوء الشمس وبلا رتوش وهيبة ومقام السلطان.ان ذهاب هيبة السلطة عن السياسين بالخصوص، ونزولهم من عليائهم، وظهورهم كرجال عاديين، وربما عاديين جدا قد يكون امرا مهما ومفيدا، في مجتمع اعتاد ان يعظم السلاطين ويألههم ويمجدهم، ويتعبد باقوالهم، وانهم ظل الله في الارض، وارباب لرب الكون، ان تهافت مثل هذه المفاهيم والقيم سوف تحرر المجتمع والشعب من تأثير السلطة واعلامها ورجالاتها ويجعل المجتمع والشعب اكثر حرية وثقة، وفاعلية، في نقد الحاكم، وتصحيح مسيرة الحكم وجعله تحت سطوة رقابة الشعب والخوف منه والحرص على ارضائه.إن هذه الحالة "علو الشعب ، بقدر علو الحاكم، او تدني هيبة الحاكم الى عموم الناس" قضية وامر لا يرغب فيه الطغاة، واصحاب النفوس المتسلطة والمتعجرفة والانانية، التي ترى في نفسها ان وجودها ضرورة لحفظ الدولة، وانهم متفضلون على الامة بقبولهم بهذا الموقع، والذي يجعلهم في خدمة هذا الشعب (المتعب) ولولاه لساخت البلاد وهلك العباد، وان تكليفه ان يكون الرجل الاول في السلطة، وعلى الناس ان تحمد الله على وجوده فيهم .ان استحقاقات الازمات السياسية وتراشق السياسيين، ستزيل تماما عجرفة السياسيين، وتقديس من في السلطة وتزيل زوبعة القائد الضرورة، واضحوكة، "لا بديل لي الا انا"، التي تعود شعبنا عليها وما زال يعيش آثارها وظلالها وما توارثه عن الحكام السابقين، ولعل فلسفة جعل دورة الرئيس لمرتين في الانظمة الرئاسية وعدم النص على ذلك في الانظمة البرلمانية، يكمن في ان طبيعة الانظمة البرلمانية في ذاتها تجعل الشخص الاول في الحكومة، بين "حانة ومانة" كما يقولون لأن اختياره واستمرار وجوده في المنصب بموافقة ممثلي الشعب في البرلمان، وقدرتهم على محاسبته يوميا ويملكون سحب الثقة عنه في اي لحظة وتهديد وجوده في السلطة على الدوام.ـ إن الأمر الإيجابي الآخر، لهذه الأزمات السياسية، انها ستساهم في ايجاد ثقافة سياسية واسعة وعامة، لكل طبقات وفئات الشعب، وبطريقة مثيرة وجذابة وعملية وحماسية اذ ان نقد الحكومة او حزبه بسبب تجاوزه المادة الدستورية الفلانية، والقانون الفلاني، ورد الحكومة او رئيسها على هذه التهمة ببيان نصها وتفسيرها وتأويلها ومصداقها وحالتها للدفاع عن الحكومة او من قبل رئيسها ـ يُعد في الحقيقة عملية تثقيف دستوري وقانوني، كما انه تدريب منظم ودقيق لعملية الحوار والنقاش والجدل أن هذه الملحمة والمباراة الجدلية ستساهم بشكل اكيد في صناعة الوعي، وقدرة التقييم، واستقراء الاحداث والاشخاص وتقلباتهم في تصريحاتهم، وصداقاتهم، فهذا حليف اليوم، والمناكف غدا، وهذا ايجابياته في التحالف معه وهذا سلبياته عند معارضته، وهذا سياسي كثير التقلب كثير التصريحات، وذاك يبيع مواقفه بمناصب، وذاك ثابت، وهذا حريص على البلد وهكذا، فيصبح شباب البلد فضلا عن كبارها على معرفة ودراية وقدرة على الفهم والتقييم والتشخيص، ما يجعل عمل السياسيين اصعب، وتصريحاتهم اقل تأثيرا، والاعلام ورتوشه اقل خدعة، وهذا في صالح ابناء المجتمع وقوته ونضجه ووعيه وحفظ مصالحه ومستقبله.وهذه فائدة عظيمة لا تستطيع الانظمة غير الديمقراطية او البرلمانية الاخرى تحقيقها، بل تعمل على العكس منها فتزيد من تجهيل الشعب وتسطيح فهمه وتبليد تفكيره ووعيه.الفائدة الاخرى التي يمكن ان تذكر للازمات، هي انها تعطي فرصا واسعة لتدريب السياسيين على التصريحات والتعلم (برؤوس اليتامى ابناء الشعب) كما انها فرصة للاعلاميين ليتحركوا بساحة واسعة، في اقتناص التصريح والموقف وطريقة اثارة المتحدث، وكسب المستمع وملء هذه الفضائيات العديدة ببرامج سهلة الكلفة واكثرها جذبا واثارة.اما في غياب الازمة فان ذلك سوف يكلف الاعلامي للبحث عن موضوع او قضية في إدراج الملفات، ويجهد في جذب المستمع او المشاهد، وصعوبة في ملء اوقات الفضائيات، فالازمات ربيع الاعلاميين وفرصتهم العظيمة، قطعاً ان كثرة الازمات سوف تزيد من خبرة الاعلاميين وتنضيج ذوق المشاهدين والمستمعين ليطالبوا بالجديد والاحسن، والافضل.اما الانظمة الرئاسية غير الديمقراطية كما نجدها فالاعلام تقليدي بليد ليس فيه جديد ولا حياة ولا شد، ومتأخر وضعيف. وعند المقارنة يصبح النظام الديمقراطي اكثر تأثيراً وجاذبية في الانظمة غير الديمقراطية الرئاسة.المسألة الثانية المهمة وخاصة في وضعٍ كالعراق.. ولبنان عندما يكون المجتمع نفسه منقسماً طائفياً ومذهبياً ودينياً فضلاً على انقسامه سياسياً وفكريا.. في مثل هذه البيئة المتنوعة اثنياً ودينياً، ينبغي على السياسيين، إن كانوا اوفياء لبلدهم وقومهم وتأريخهم ومستقبلهم ان يكونوا نزيهين سياسياً فضلا عن النزاهة المالية، والنزاهة السياسية هي الا يحوّلوا تنافسهم السياسي والمصلحي لحزبهم او قائمتهم، الى صراع مذهبي او قومي، باستخدام كل وسائل التهيج الطائفي او القومي لاستغلال الناس لجنبه وكسبهم اصواتهم، كأستخدامه الظلم التاريخي بحق الطائفة او القومية ليتقوى بها في تحقيق مصالحه وتقوية موقعه الحزبي او الشخصي ويَتحول بذلك المباراة السياسية والتنافس بين الاحزاب والكتل الى مباراة ما بين الطوائف والقوميات تُشحن فيه النفوس وتهيّج فيه العواطف والمواقف ويصبح الدين والقومية والسياسة مطية لهذا الحزب او الرئيس، او تلك القائمة، يمتطيها ويستخدمها كلما احتاج اليها سواء كان ما يطرحه صحيحاً او خطأ والمهم ان تكون قضايا قومه وطائفته في خدمته وليس هو في خدمتها.قد تكون هناك قضايا تمس مصالح الطائفة او القومية وقد يكون الدفاع عنها من الاولويات وفي الحقيقة ذلك يعني دفاعاً على قضايا دستورية (على فرض ان الدستور حفظ مصالح الطوائف كلها) واذا كان الامر كذلك فيفترض ان وجوه القوم من الطائفة او القومية كلها او جلها في موقف واحد وليس بعضهم.ان اختلاف وجوه الطائفة او القومية فيما بينهم يكشف ان القضايا المتنازع عليها لا تمثل اولويات هذه الطائفة او تلك القومية، وانما هي قضايا حزب او زعيم وحسب ليس الا.في الختام هذه وجهة نظر "مُعاكسة" ترى ان في الازمة خير ونفع، وربما فوائد استراتيجية، وإن كان لها الكثير من السلبيات. وربما تتحول بعض السلبيات الى اخطار اذا اصبح التنافس والتدافع في مباراة السياسيين وتصريحاتهم الى اهازيج واشعار قومية.. والى محل ومجالس لإحياء الشعائر الدينية، فعند ذاك يقع الفاس في الرأس، ولا حول ولا قوة الا بالله.
https://telegram.me/buratha