الحرائق مشتعلة في الجنوب الشرق التركي وهذا ما لم تآخذه العقول الاستراتيجية التركية في الحسبان, بعد أن اعتقد اصحاب القرار في انقرة, أن الازمة السورية جاءتهم هدية من السماء, وأن الفرصة التاريخية هذه يجب اهتبالها, ولم يكن الوقت ملائماً لطموح اردوغان «العثماني», في أي زمن مضى مثلما هو الان, على طريق تحقيق مقولته, التي جاءت في صيغة تساؤل: ألسنا أحفاد الدولة العالية العثمانية؟ ألسنا أحفاد السلاجقة؟ ألسنا أحفاد عثمان؟
أطلت المسألة الكردية برأسها مع تفاقم الأزمة السورية, وبعد أن أخذت انقرة على عاتقها احتضان وتسليح ودعم «المتمردين» على النظام السوري, مركّزة على فصيلين هما جماعة الاخوان المسلمين السورية وجيش رياض الأسعد الموصوف بـ(الحر), فيما غضّت الطرف عن المجموعات والتنظيمات الاخرى, في مسعى منها لتعجيل سقوط النظام في دمشق طمعاً في الفوز بالكعكة السورية أو بالنسبة الاكبر منها, إدراكاً منها أن ثمة «رعاة» آخرين بالتمويل والفبركة الاعلامية والتسليح..
الان - ولاحقاً ولكن في شكل افدح – تجني انقرة نتائج حساباتها الخاطئة أو المتسرعة أو الطوباوية, فقد اغتنم الكرد (وهم هنا ليسوا فقط كرد تركيا الذين يتعاطفون مع خطاب وطروحات حزب العمال الكردستاني PKK بزعامة عبدالله اوجلان, بل غالبية كرد سوريا ونسبة لا بأس بها من كرد كردستان العراق, باستثناء ما يمثله في العلن حليف تركيا القوي الان مسعود برزاني) الفرصة ذاتها كذلك وأوجدوا لأنفسهم هوامش أكثر سعة للمناورة وبناء تحالفات ومعادلات جديدة, دأبت الدبلوماسية التركية على محاولة منعها, تارة بالهجمات العسكرية متعددة الوسائل والمقاربات, بالاجتياح البري أو الغارات الجوية, أو القصف المتواصل أو كلها مجتمعة, وطوراً بالسياسة عبر التضييق على محاولات الكرد التقرّب من دول عواصم اقليمية مؤثرة, كان أحد أبرز تجلياتها الزيارة التي قام بها احمد اوغلو لاربيل واجتماعه وبترتيب وضغوطات برزاني مع ممثلي14 حزبا كرديا سوريا باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (السوري بالطبع) الاقوى والاكثر نفوذا والاقرب ان لم يكن الوجه الاخر السوري لحزب العمال الكردستاني pkk بزعامة اوجلان في مسعى لشق «وحدة» او اسقاط وثيقة التفاهم بين الاحزاب الكردستانية السورية والتي اسفرت عن قيام المجلس الوطني الكردستاني نأياً بالاكراد عن المجلس الوطني السوري (مجلس اسطنبول) بعد ان فشل الاخير في تلبية طلب الكرد تخصيص فقرة او بند في وثائقه تعترف بحقوق كرد سوريا وخصوصيتهم الثقافية (علما ان برزاني هو صاحب الدور الاكبر في جمع كلمة كرد سوريا في اطار المجلس الوطني الكردستاني وها هو ينقلب عليهم او يقسّمهم)..
المهم..
زيارة اوغلو لأربيل رغم انها استفزت بغداد التي ردت بقسوة وانتقاد لاذع على زيارته لكركوك، لم تُسهم في تبديد القلق التركي المتصاعد وما «معارك» يوم امس وسقوط هذا العدد الكبير من الضحايا 6جنود اتراك و2 من حراس القرى (وهم شبيحة الدولة التركية من الاكراد) يؤشر الى ان الامور آخذة في التفاقم وان حرب استنزاف جديدة قد اخذت طريقها الى المشهد التركي, ولكن في ظروف ومناخات اقليمية مغايرة, بعد ان كانت هناك دولة اسمها سوريا قادرة على ضبط الحدود وتبادل المعلومات الامنية مع الجارة والصديقة الشمالية، فيما هي الان غائبة (الجارة الجنوبية) بل ان انقرة اسهمت في تسليم المعابرالحدودية لمتمردين جهاديين وتكفيريين ظناً منها ان هؤلاء قادرون على توفير البضاعة, فاذا بالفوضى تنتشر واذا بمقاتلي حزب العمال يزدادون قوة وحضورا ويبادرون بالاشتباك ونصب الكمائن واستعادة خطوط التموين والتدريب واستقبال المتطوعين..
اين من هنا؟
تدفع انقرة ثمن سياساتها المتسرعة او غير الناضجة التي اوقعها بها الاكاديمي وغير المتمرّس في السياسة ودروبها وألاعيبها, احمد داود اوغلو الذي خَدَعَ او ربما بَهَرَ اردوغان فسلّمه رئاسة الدبلوماسية التركية التي كانت اكثر واقعية وحكمة وحذرا في التعاطي مع ملفات المنطقة وخصوصا في شقها التواق الى استعادة الامجاد العثمانية الغابرة, وربما ايضا يكون الثنائي اردوغان - اوغلو قد وقعا ضحية مبالغات واوهام وتهيؤات نجح بعض «العرب» في دفعهما لتصديقها, وخصوصا لجهة ان النظام السوري لن يصمد اكثر من ثلاثة اشهر او حتى نهاية العام (2011) فاذا بالامور عكس ذلك تماماً, وها هم الحلفاء انفسهم يتخبطون بعضهم انفجر في وجه التمرد الكردستاني (التركي) وغيرهم بعد ان نعى مهمة مصطفى الدابي وسرّته استقالة انان يواصل صراخه دون أمل أو تفاؤل.
5/5/815
https://telegram.me/buratha