لحظة سقط صنم ساحة الفردوس، خلق مشهد جديد في ظاهره تسامى شعب خلطت ذاكرته الجهة والتاريخ والهوية والإنسان وموروثاً من قهر وتخلف واستبداد في بوتقة من الأسطورة، أراد بها خلاصا يتجاوز به حقائق تنازعتها وقائع السيف وتداعيات الدم وقرابة النهب والقيد التي وسمت علاقة مكوناته وانتظمتها، بعلاقة تشبه علاقة الإخوة الأعداء، وضعت حدودا في مكامن تلك العلاقة وخفاياها تحكمت بها وقائع على الأرض، لم تهذب من أثرتها حتى قيم السماء، فلاذت بذاكرة تقتات الماضي، وتدمن الاستبداد لمداراة علاقتها بتوتر تاريخها وإخفاقات واقعها. وظلت تنتج اقصائية أهل الدار بوهم المسعى الوحدوي العروبي الذي ما إن تعتقده راسخا رسوخ الجبال حتى يتلاشى ككثبان الرمال. لان تلك العقلية عقمت حتى مع منجزات التلاقح الحضاري وسعة آلياته وتنوعها ان تبدع نظرية عادلة للحكم، وان تنتج استراتيجية تشخص مفردات واقعها، ولم تستطع أن تتجاوز ممارسة الحكم كما جسدته وتجسده حتى الآن تلك العقلية التي لا ترى لها شريكا في الوطن سوى نفسها، واقصى ما استوعبته من المنظومات الحديثة للحكم، انها آلية احتيالية لخلق نسيج سياسي مخصي فاقد للخصوبة، يتشكل من لفيف من مخالب القطط السياسية، تخدم مركز هذه العقلية وتسوّق نفوذها وتدير اعمالها وتمجد مقامها. لحظة سقوط صنم الفردوس جمعت ديناصورات السياسة العراقية لكل اجنداتها. لتغتال تجربة المجاهدين الحقيقيين ومعارضي صدام الذين حملوا السلاح ضده فاستشهد نصفهم، فيما النصف الثاني تفرق في المنافي . ومع تجمع الدناصير كان اسوأ ما لدى تلك المنظومة القتل السياسي الذي أستولد القتل على الهوية، كان ذلك سمة دائمة في تجربة الديناصورات منذ زمان ((أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها))، وكان النظام الصدامي جزءا من منظومة التاريخ الديناصوري، ولذا فأن بين معارضيه الذين تملكوا ناصية الحكم من بعد سقوطه من لم يكونوا ((معارضين)) له ، بل كانوا ((مفارقين))، والذي فارقه ليس كالذي عارضه! ولم يتسع الحكم الجديد للمعارضين والمفارقين على سطح واحد، فنشأ الخصام الذي تحول الى خلاف، ما لبث ان صار مآله الى الإختلاف، ثم التصادم فالصراع الذي لا بد منه تبعا لحتمية التاريخ....الإقصاء السياسي هو التسمية المهذبة لـ ( الإخصاء السياسي) الذي هو سمة تجربة المفارقين التي تعايشوا مع النظام الصدامي وتداخلت مصالحهم معه رغم الفراق، فكانوا بالحقيقة جزءا من المنظومة التي أنتجته، وليس هذا فحسب، بل اتكأت تجربة الخصي السياسي على ذاكرة قبلية استعلائية، تستعيد انتاج ذات الماضي، ولم ترَ للتغيير الديمقراطي ضرورة، الا من منظور ما تهدد من مصالحها، ومن منظور ما ينفع تلك المصالح، وعندها المشروع الوطني ليس الا آلية لتثبت تلك المصالح وتقوية ذلك النفوذ. منظومة اتكأت على ذاكرة اسطورية غذتها الشعارات القومية، وحركت تجربتها مفاصل من دم، وتحكمت بها أثرة الإفادةالسياسية، حتى حطت مراسيها منهكة وقواها مبعثرة، لكن ثاراتها السياسية بقيت مفتوحة!الجهة الأولى (التي كانت معارضة لنظام صدام) بدأت ملامح مشروعها الوطني مع بداية سقوط صنم الفردوس، فتداعت الى مجلس الحكم، لكن هذا المجلس وإن لم يكن سوءا كله ، لكنه أسس لتحجيم دور الشعب ومشروعه الوطني، وحوله الى " قيد فئوي "، سكنت الفئة فيه محل الوطنية، وخلق مراكز حاكمة مهيمنة متعددة عماد كل منها (الطائفة) التي صنعت نسيجا سياسيا ظل يتكرر حتى الآن، وتحول فيه الشركاء أو من كان ينبغي أن يكونوا شركاء، الى مخالب قطط في نسيج سياسي ديكوري مصطنع مفرغ من الندية النبيلة، جعل الوطن مصلحة لقبيلة الطائفة أو كبار متنفذيها يتستر على معايب الممارسة الفعلية للمركز ويسوقه بغير اسمه، فنمت مصالح الأحزاب وتضخمت حتى أصبحت كل مجالات الوطن ملكا لها.بيد أن هذه الجهة (التي كانت معارضة لنظام صدام) استعصت على الخصي السياسي، فنظمت وجودها ودورها ومصالحها وركائز مشروعها الممتد بعمق في الزمان والمكان والناس، وحلت في موقع دون الهيمنة السياسية، لكنها تملك حقائق تاريخية وأجتماعية تتحكم بالمجال الموجودة فيه وتماسكه من المستحيل تجاوز مفرداتها. أما الجهة الثالثة فهي "العائلة الأنتهازية" ، تلك التي دخلت مركز الحكم بقوة وذكاء، وأكتسبت شرعيتها من مكونات المركز ذاته، ومن شكيمة منظومة الدولة المتوارث التي كانت أقوى من انفجار الحقيبة، فشرع يؤسس مشروعه مستفيدا مما أنتزعه أسلافه من نفوذ وامتيازات من الدولة، ومن قدرته على تطويع مسار الدولة وتحميله مضامين مشروعه، فوسع هوامش مخالب القطط في النسيج السياسي والحزبي والإعلامي ...الخ. وصنع خطوطا في المشهد السياسي استعصت على التغيير فتشتت في دهاليز تلك الخطوط معتقدة ــ وهما ــ أنها مالكة لها. الجهة الرابعة هي الجهة التنظيرية لليبرالية الجديدة التي لم تتسع حتى لنفسها وكان الشبق السياسي سمة لها، واعتمدت ايديولوجيا وافدة مقطوعة الصلات بواقعها، فلم تستوعب من التاريخ الا حقبتها وشعاراتها، وكان أعداؤها أكثر من محبيها. فاحتواها الخارج وبيئته، ولم يلبث أن اقصاها بعد أن تكثفت مكوناته، وانكمشت بيئته على مفردات رؤيتها وممارستها وعلت أثرة القبيلة والعائلة فيه..تلك ملامح المنظور الآيزومتري (المجسم) للواقع العراقي سياسيا وإجتماعيا، وليس في الأمد القريب من أمل لتصالح الجهات الأربعة وإالتقائها في نقطة الصفر الرياضي...ليس بالإمكان أن يقبل المعارضين للمفارقين، وليس بإمكان الإثنين قبول الإنتهازيين، وليس بإمكان الثلاثة قبول الليبرالية الجديدة، كما أنها لن تقبل بهم، وسيحاول كل الإطاحة بالكل! وبالحقيقة سيمضي زمن طويل حتى نرى إقتصار الساحة على نظام مؤسسي عماده حكم ومعارضة حقيقية ، يتداولان السلطة في دورة زمنية إستنادا على معطجيات الإطروحة والعطاء...وعندها لا يهم من يحكم العراق والمهم كيف يحكم العراق..وللحديث صلة
https://telegram.me/buratha