بقلم سماحة العلامة السيد حســـين الصـــدر
لا خير في الأقوال ما لمْ تقترنْبخوالصِ النيّاتِ والأفعالِحَسْــــــــبُ الفتى نُبلاً وطِيباً أنَّهُمتطابِقُ الأقوالِ والأعمالِالبراعات اللسانية تدفع بالكثيرين إلى إطلاق كلماتٍ تَقْطُر رقةً وعذوبةً وانسانية، فتأخذ بمجامع القلوب، وتقتحم أسوار النفس، لتستقر في حنايا الوجدان، مثيرةً في الأعماق ألواناً من الإحساس بالبهجة والارتياح والتقدير، ولا يمكن لتلك الكلمات ان تُحدث في نفوس الناس ما تُحدث، من تأثيرات هائلة، وتفاعلات ايجابية كبرى، إذا كانت مصطبغةً بطابع الانانية والنرجسية والانتفاع الذاتي واللهاث وراء المكاسب الشخصية والفئوية..لان الناس لاينفرون من شيء قدر نفورهم من تلك الأعراض والأمراض!!.والسؤال الآن: ما هو الفيصل الذي يكشف لنا الحقائق، فنستطيع على ضوئه الوصول الى الواقع، بعيداً عن كل الزخارف وعمليات التضليل والدجل؟إنّ الفيصل الحقيقي هو مقدار تطابق الأقوال مع الأعمال بنحو يكون فيه الميدان العملي تطبيقاً دقيقاً لكل الأقوال والمدعيات والبيانات المغموسة بالسحر الأخّاذ!ان الفئة الوحيدة التي يستملح منها الخيال، والمبالغة، واصطناع الأكاذيب هي فئة الشعراء، ومن هنا قيل عن الشعر (أعذبُه أكذبُه )، أما رجال السياسة والسلطة، فَهُم مسؤولون أمام الله، وأمام الجماهير وأمام التاريخ عن كلّ حرف يقولونه، وليس عن كل كلمة ... والصدق السياسي أندر من الكبريت الأحمر، وهنا تكمن الطامة!!.لقد شبع الشعب العراقي من الوعود المعسولة، والكلمات الرنّانّة ، والخُطَب البليغة التي أُطلقتْ من قِبل المحترفين السياسيين – على اختلاف أحزابهم واتجاهاتهم – حتى أصيب بالتخمة، ولقد دبّ اليأس في النفوس، وانكفأ أصحاب الآمال العراض، بعد سنوات عجاف من الانتظار والترقب لاصلاح الأحوال، فيما بقيت العُقد على حالها، وتفاقمت الصراعات السياسية ليكون الارهابيون وأعداء العراق أكبر المستفيدين منها، ويكون المواطنون هم الذين يدفعون الأثمان قتلاً وقهراً وعذابات مستمرة!.إن مناسيب الثقة بالمحترفين السياسيين قد انخفضت الى حد بعيد، وأخشى ما نخشاه ان ينعكس ذلك على مشاركة المواطنين العراقيين في الانتخابات القادمة، وعندها تبدأ دورة جديدة من المعاناة، بدل ان تنتهي كل الفصول المرّه القائمة!.لتكن مصلحةُ الوطن فوق مصالحكم، وليكن انحيازكم لشعبكم بدل ان يكون لكتلكم، وحساباتكم الخاصة. انَّ نجاح الوطن هو نجاحكم جميعاً، ولكن أين الآذان الصاغية؟ ومتى تبدأ الخطوة الأولى في الرحلة المطلوبة؟.قصة ذات مغزى لقد ألّف المرحوم (النراقي) ت 1209هجرية كتابه الشهير (جامع السعادات) ليكون واحداً من أهم الكتب الأخلاقية، وبالفعل فقد حظي هذا الكتاب بشهرة واسعة، وظل قيد التداول في الأوساط العامة والخاصة حتى الآن.وحين قدم مُؤلِفهُ النجف الأشرف، زاره كبار علمائها باستثناء المرحوم السيد مهدي بحر العلوم – العلم العلّامة المعروف – (توفي 1212 هجرية) وهنا تصدى المرحوم النراقي لزيارة السيد بحر العلوم رغم ان القادم هو الذي يجب ان يُزار فلم يَلْقَ في زيارته للسيد الحفاوة البالغة وهو أمر غريب، لاسيما مع ما عُرف به السيد بحر العلوم من رحابة الأخلاق.ولقد كرّر المرحوم النراقي زيارته للسيد بحر العلوم ثانيةً، حين لم يزره السيد بحر العلوم، ولم تختلف أجواء الزيارة الثانية عن الأولى في شيء، حيث لم تحفل بما يلفت النظر من الترحيب والعناية.ورغم ذلك كله فقد كرّر المرحوم النراقي زيارته للسيد بحر العلوم مرة ثالثة وبمجرد اخبار السيد عن قدوم (الشيخ) الى داره في المرة الثالثة، انطلق لاستقبال الشيخ بحفاوة ظاهرة، واهتمام شديد، وأجلسه في صدر مجلسه، مبديا احترامه الفائق له، ثم ان السيد بحر العلوم – طاب ثراه – أخبر الشيخ النراقي انه قرأ كتابه، وأثنى عليه، ولكنه أراد ان يعرف هل ان الشيخ النراقي ملتزم عملياً بما ورد فيه؟.ومن هنا ترك المبادرة لزيارته، ولم يبالغ في الحفاوة به حين زاره، وتوصل السيد بحر العلوم عبر الاختبار الى حقيقه مفادها:ان الشيخ النراقي يتطابق فعله مع قوله، فهو واعظ متعظ، وحينئذ قابله بما يستحق من الاجلال والاعظام.انّ في القصه درساً ثميناً ينبغي ان لايُنسى.وهكذا يجب ان يحتل الصادقون الذين تتناغم أفعالهم مع أقوالهم موقع الصدارة في المجتمع، وبهذا التطابق بين الأفعال والأقوال، يكون الخلاص من براثن التقصـــير والزيف والانغمــاس في المصـــالح الــذاتية والفئـــوية.
https://telegram.me/buratha