حســـين الصـــدر
ليست (الوظيفة) في دوائر الدولة ومؤسساتها، إلاّ فرصة تمكّن أصحابها من خدمة المواطنين، من خلال النهوض بأداء ما أنيط بهم من مسؤوليات ومهام بكل تفان واخلاص، ولا يتم ذلك بالمجّان، وإنما يتم لقاء رواتب شهرية معلومة محكومة بمنظومة من الضوابط والآليات، لتزداد مع ازدياد سنوات الخدمة عبر (العلاوات) و(الترقيات)، التي تأتي غالباً متناغمة مع ما يسجله الموظفون في مسيرتهم الوظيفية من نجاحات وايجابيات.إنّ جوهر العمل الوظيفي قائم على افتراض (التعاقد) بين (الموظف) وبين (الدولة)، وفي ظلّ هذا الاطار، يمكن ان تسير عمليات التعاطي بين الموظفين والمواطنين على أفضل ما يرام.ولم تكن تُسْمَعُ شكاوى المواطنين من محاولات الموظفين لابتزازهم، وحملهم على دفع مبالغ معيّنة لقاء انجاز معاملاتهم قبل 9 نيسان 2003 إلاّ في حدود ضيّقة. وأياً كان سبب الانضباط في هذا المجال، سواءً كان الطهر والنزاهة الحقيقية، والوازع الداخلي المانع من اقتراف الابتزاز، أو الخوف من العقوبة القاسية التي تنتظر المخالفين، فإن المحصلة النهائية كانت لصالح المواطنين، لاسيما شريحة الفقراء والضعفاء الذين لا يستطيعون الوفاء بما يفرضه عليهم المبتزون من الموظفين.وأما اليوم، وفي العراق الجديد، عراق الحرية، والانعتاق من ربقة الاستبداد، وفضاءات التمتع بالحقوق، والكرامة الانسانية، فقد أصبح الأمر شيئاً آخر: ان (الوظيفة) في دوائر الدولة، أياً كانت طبيعتها ودرجتُها، انقلبت في معظم الأحوال الى (دكانٍ) يبيع فيه الموظف الخدمة التي يؤديها (بثمن) يفرضه على المواطن حسب مزاجه، والمواطن هنا بالخيار: فأما ان يدفع للموظف ما يريد، وفي هذه الحالة تزول كل العقبات وسرعان ما يصل الى مطلوبه، وأما ان يرفض فيتراكم على معاملته الغبار، وهذا بالذات أحد أبرز معالم الفساد الاداري والمالي الذي تعاني منه معظم الدوائر والمؤسسات الحكومية!!.إنها "فوضى خلاّقة" من طراز رفيع، تصطبغ بها معظم المعاملات في شتى الدوائر والمؤسسات!!، ومثل هذه الحالة لا تعني الاّ النخر الكبير في بُنية الهيكل الوظيفي العام، وتعميق الهوة بين المواطنين والدولة من جانب آخر، وان اي فتور او ارتخاء في علاقة المواطن بالدولة، لا تعقبه الاّ الويلات والنكسات، واستمرار الأزمات والمشكلات.المثال المرعبحدّثني أحد شبابنا الأعزاء، وكان قد راجع المحكمة الشرعية لتسجيل عقد قرانه فيها، فقال: ان وثيقة الزواج الصادرة من المحكمة الشرعية لايسمح لصاحبها ان يأخذها بنفسه الى دائرة الأحوال المدنية لتأشير الزواج في صفحة خاصة، وانما يجب ان ترسل من (المحكمة) الى (دائرة الأحوال المدنية) عبر موظف خاص، وهذا الموظف الخاص، لا يأنف، ولا يتوقف عن مطالبة صاحب الوثيقة بأن يدفع له ما يرضيه!!.يقول صاحبنا: قلتُ له وكم تريد؟قال: ادفع لي فقط خمسين ألف دينار يقول: قلت له: أليس هذا كثيراً؟قال: لا، وان لم تدفع فلن يكون نصيبك الاّ التأخير!!.بهذه الوقاحة، وبهذه الصفاقة يُواجه المواطن، دون ان يخشى الموظف من أحد!.إن دفع خمسين ألف دينار، لا لشيء إلاّ لايصال الوثيقة من (المحكمة) الى (دائرة الأحوال المدنية) يعتبر ابتزازاً رهيباً، لايمكن ان يقبل بحال من الأحوال، وان هذا المبلغ ينوء به أصحاب الدخل المحدود، وهم الطبقة الغالبة من المراجعين.هذا مثالٌ واحد من ضمن الأمثلة الكثيرة التي تجري هنا وهناك في كل يوم.والسؤال الآن: الى متى تستمر هذه الظواهر المخزية والمرهقة للمواطنين؟!أما آن للأجهزة الرقابية في الدولة، ان تضع حداً لمعاناة المواطنين المستمرة مع المبتزين في مختلف الدوائر الحكومية؟ ومتى تتخذ الاجراءات الصارمة بحق المفسدين؟.انه ليس فساداً ادارياً وماليّاً فحسب، وإنما هو فساد أخلاقي فظيع وإلغاء لمعاني "الانسانية" و"الوطنية"، وان من يستمرىء السحت، والمال الحرام لن يكون إلاّ جرثومة فتّاكة، ان لم تقض عليها، فقد قضتْ عليك.
https://telegram.me/buratha