الباحث احمد الشجيري
لا يمكن تحديد سبب معين اسهم في حد ذاته في إنهاء حكم عبد الكريم قاسم ، إنما ادت عدة أسباب دورها في إنهاء هذه الفترة من تاريخ العراق ودخوله إلى فترة أخرى .
لقد كانت ثورة 14 تموز 1958 قد غيرت الكثير من الأوضاع في العراق ، حيث أدت هذه الثورة إلى تغيير شبه تام في تنظيم الهيكل الاجتماعي والاقتصادي وإلى نقل مركز السلطة والنفوذ ، وإلى إبراز القضايا الاجتماعية وجعلها في مقدمة اهتمامات الدولة وسياساتها ، وإلى تغيير جذري في نمط ملكية وسائل الإنتاج ، لقد شهد العراق بعد ثورة تموز تغيراً جذرياً في في بنيان القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وأعيد تنظيم هذا المجتمع بقصد تطوير البلاد وتحسين الظروف المعاشية حسب أهداف الثورة المعلن عنها .
إلا أن النتائج المتحققة كانت دون الأهداف بكثير ، وهذا يدل أن الأهداف التي وضعت كانت أكثر من طاقات النظام السياسي الذي يقع على عاتقه رسم السياسة الاقتصادية والاجتماعية مما يستوجب أن أي خلل أو نقص يتعرض له هذا النظام فأنه سيكون له أثره في تعطيل مسيرة التطور ، فهناك نقص نابع من الداخل مثل ( الافتقار إلى الخبرة ، الصراع على السلطة الشخصية ، والعجز عن تحقيق إجماع في الرأي عن طريق المناقشة والاقناع ، والتغيير السياسي المتكرر ثم الانقسام والانشقاق ) ، وهناك نقص خارجي نابع من الظروف في الخارج ( كالنزاعات السياسية مع البلدان المجاورة مثل إيران وسوريا والأردن والكويت ، والحرب الأهلية بين قوات الحكومة والأكراد والنزاع العربي الإسرائيلي ) .
ويذكر د. محمد سلمان حسن " أن تعثر ثورة 14 تموز في تحقيق مهامها ، بسبب ضعف العوامل الذاتية بالرغم من توفر الظروف الموضوعية ، إذ أن تمزق جبهة الاتحاد الوطني ، وعجزها عن مجابهة مشاكل الوضع الثوري الجديد بسبب طبيعتها جبهة ائتلاف وطني ينحصر ميثاقها في تحقيق الجانب السلبي ، وهو الاطاحة بالنظام الملكي ، ولافتقادها لاتفاق على ستراتيجية واضحة ونظام داخلي عملي ، كما أن ايمان القادة العسكريين بالحكم الفردي ، إلى جانب الطابع المزدوج للبرجوازية وهو مناهضة الامبريالية من جهة وجمودها في الحفاظ على النظام الرأسمالي من جهة أخرى ، مما حال دون استمرار تحالف القوى المعادية للاستعمار وقوى الثورة الاجتماعية كما حال دون تطور الصداقة مع المعسكر الاشتراكي إلى تعاون فعال على أساس من المنافع المتبادلة ، وقد انعكس ذلك في ترددها على الصعيد الدولي بين المعسكرين ، وفي تذبذبها بين قوى الثورة المضادة في الداخل كل ذلك قد أدى إلى تعثر ثورة 14 تموز وبالتالي عدم تحقيق نفسها "
وقد يكون هذا الرأي يحمل تحليلاً منطقياً وموضوعياً لاسباب تعثر الثورة وعدم تحقيقها لأهدافها ، رغم أن معاصري تلك الفترة يؤكدون أن الطبيعة المتهورة والطموحة اكثر من اللزوم لعبد الكريم قاسم وميله إلى جهة اليسار إلى ( الحزب الشيوعي ) اسهمت في عرقلة سير العملية الثورية إن القوى السياسية التي كانت في الساحة من شيوعيين وقوميين وديمقراطيين كانوا يتصارعون صراعاً دموياً شرساً على شعارات مجردة فقدت آليات تحقيقها ولا يمكن ولا تسمح الظروف والقوى الداخلية والدولية وطبيعة تطور الأوضاع الداخلية بتحقيقها مما أتعب قواها وأفرغها من محتواها الحقيقي وبالتالي أنهى دورها في بناء الدولة وفي تحقيق التنمية ، وفي تحقيق الود أو التضامن العربي والاممي وأحرج عبد الكريم قاسم وأظهره بمظهر المتردد البعيد عن الإستراتيجيات الثابتة والمتأثر بأعوان متباينين حسب اختلاف الظروف والأحوال، أي أن الجهة السياسية التي تكونت في إطار الثورة عام 1958 لم تكن على المستوى السياسي والشخصي الذي يمكن أن تكون دعماً لعبد الكريم قاسم بل حملاً وعبئاً ثقيلين عليه في تلك الفترة .
لقد انحصر اهتمام عبد الكريم قاسم والضباط الأحرار بعد 1958 بشعارات الحركة الوطنية ، وكان عملهم في تحقيق هذه الشعارات والمطاليب وقيامهم بالنضال في سبيل تنفيذها وأسلوبهم الذي اختاروه لذلك مما ميز الثورة في العراق وصبغها بلونها الخاص المتصف بالعجلة والدموية ابتداءاً من الساعة الأولى عندما قتلت العائلة المالكة في قصر الرحاب حتى انتهت الجمهورية الأولى في قاعة الاذاعة بمقتل عبد الكريم قاسم في أعقاب 14 رمضان 1963، حيث كان واضحاً إهمال الآليات والوسائل والأدوات والمؤسسات لتحقيق أهدافها مما كان يمثل ضرورة لا غنى عنها لنجاح الثورة وتحقيق أهدافها كتشكيل مجلس أعلى لقيادة الثورة من بين الضباط التموزيين في الأيام الأولى للثورة إجراءاً مؤقتاً ، وكان الهدف من الدعوة إلى تشكيل مجلس قيادة الثورة هو أن يحل محل الهيأة التشريعية في اقتراح القوانين ومراقبة السلطة التنفيذية في تطبيق البرامج والخطط ، وكذلك الأشراف على الأمن داخلياً وخارجياً وتأمين الثورة من الانحراف والتسلط على مقاليدها ويوفر للضباط الأحرار الاسهام الفاعل في حكومة الثورة .
إلا أنه بعد نجاح الثورة لم يتم تشكيل مجلس قيادة الثورة كما تم الاتفاق عليه بين الضباط الأحرار ، انما شُكل بدلاً عنه مجلس سيادة يضم ثلاثة أعضاء من غير الضباط الأحرار ، وربما كان الهدف من ذلك حسب رأي ناجي طالب هو أبعاد الضباط الأحرار عن موقع القرار والسلطة في هذه الفترة .وبدأت عوامل الانحلال والضعف تظهر في جسد الجمهورية الفتية بسبب النزاعات الحزبية وابرز دليل على ذلك حدوث انتفاضة أو حركة الشواف في الموصل في آذار 1959 ، التي كان قادتها أعضاء في حركة الضباط الأحرار واندلاع أعمال العنف في الموصل بسبب هذه الحركة ، ثم حدوث محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد في 7 تشرين الأول 1959 من أعضاء في حزب البعث هذه الأحداث أن دلت على شيء فهي تدل على مدى التمزق الذي حدث والانقسام في صفوف الجبهة الداخلية للعراق خلال هذه الفترة وبالأخص في صفوف القيادة العليا للدولة .
إن انهيار جبهة الاتحاد الوطني والنزاع الدموي الذي انعكس في شعارات سياسية متطرفة أجهضت قوى الثورة أمام القوى المعادية ، لا بل عملت على اصطفاف بعض قوى الثورة إلى جانب القوى المعادية لها ، وأضعفت القوى التي بقيت على موالاتها وصرفتها عن العمل الأساسي في تدعيم الثورة ومسيرتها إلى حيث انصرفت بكل قواها في مناورات للحفاظ على نفسها وحرف السلطة عن مسيرتها بحيث انه في السنة الثالثة للثورة صار النظام الذي ابتدعته ثورة تموز معلقاً أمام خيار واحد هو خيار عبد الكريم قاسم الذي لم يكن ليؤمن بتنظيم حزبي أو سياسي ، بل كان يؤمن بالعمل في سبيل تحقيق شعارات الحركة الوطنية ، الأمر الذي جعل القوة الشخصية لفرد واحد لا تستطيع أن تقف أمام القوى الاجتماعية - الجيش - القوى السياسية - التوجه العربي - التنظيمات الديمقراطية والدينية والقومية والقوى الاقتصادية الوطنية والاستعمارية الأجنبية ، مما أدى إلى انهياره أمام هذه القوى.
https://telegram.me/buratha