لا أكتمكم أني وعلى الرغم من كوني أعمل في حقل من حقول الأتصال، وأعني به الإعلام، حيث في يدي سعة من الأدوات التي تضخ كما هائلا من المعلومات، تيسر لي تكوين صورة واضحة عما حدث أو يحدث أو سيحدث، إلا أني في حيرة شديدة من أمري منذ ما يقارب السنتين بشأن الذي يجري في المحيط العربي، فقد كشفت المواجهة المحتدمة بين شعوب المنطقة وحكوماتها، عن طاقات مذهلة لم نكن نعهدها عند طرفي الصراع..! فالشعوب، وهي تسمية أفضل وأكثر دقة من الجماهير، تمضي صفوفا صفوفا عزلاء في مواجهة رصاص الأنظمة، إلا من إرادة ظهرت فجأة فيها، والأنظمة الحاكمة تملك كل عناصر القوة وهي تستخدمها بكل تفاصيلها، بل أن الأنظمة الحاكمة يخف بعضها الى نجدة البعض بكل قضها وقضيضها، كما فعل نظام آل سعود في الحالتين اليمنية والبحرينية..
ومصدر الحيرة والذهول هو محاولة مقايسة وإسقاط ما يجري اليوم على ما جرى في الأمس، هذه المقايسة والإسقاط يقودانا الى تساؤل مؤداه: ترى أين كانت هذه الطاقات الكامنة عند الشعوب والأنظمة على حد سواء وقت قامت إسرائيل وظهرت الى الوجود؟..ألم يكن قيام أسرائيل كما قال لنا أنبياء القومية العربية، هيكل وعفلق وساطع الحصري، بسبب ضعفنا وتفرقنا شعوبا وأنظمة؟!..فإذا كان الأمر كذلك، فمن أين أكتسبت الشعوب والأنظمة هذه القوة التي تصارع بها بعضها البعض..؟!....ثم إذا كان الجواب بأن ما يحصل هو" ثورة" الشعوب ضد ظلم وأستبداد الأنظمة الحاكمة، فإن الجواب المنطقي يأتي سريعا: لماذا "خنعت" الشعوب قرابة قرن من الزمان هو عمر الأنظمة المستبدة؟!..ألم يكن المصريون يهتفون: (ناصر..ناصر..ناصر..)؟ ألم يكن السادات بغليونه (رب العيلة المصرية) المقدس عند ملايين المصريين حتى بعد أن وقع معاهدة مع أسرائيل؟...ألم يرقص السودانيون "المامبو السوداني" على وقع دكتاتورية نميري؟..ألم يضع الشبيبة الليبيون الكتاب الأخضر لمعمر القذافي تحت وسائدهم كي يقرؤوه في الصباح الباكر..؟. ألم نرى جيوشا تسعة تهزم في 1948، وخمسة في 1956، وثلاثة عشر جيشا هزمت في 1967، وكل جيوش "الأمة العربية" جرت أذيال الخيبة في 1973؟..وفي كل هذه التواريخ كانت الشعوب تبلع مواقفها وتنام ليلها على ذل هزيمة كبرى....ألم؟ ...ألم...؟..آه من الألم..!
أستطيع بكل ثقة أن أؤكد أن كلا طرفي الصراع( الأنظمة والشعوب) لو تملكوا قبل الآن نفس الأحساس الراهن بالقوة، لما خسر العرب شبرا واحدا، ولما قامت إسرائيل أساسا..
لكنني أيضا اكتشفت مثلما اكتشف كثيرون لم يخدعهم زيف ما يسمى بالربيع العربي، أن الذي "رتب" لهذه المواجهة المحتدمة بين الشعوب والأنظمة، هو نفسه من "رتب" قيام إسرائيل، ولذات الأسباب..!
كلام قبل السلام: هي لعبة انطلت علينا وأوهمونا بأننا نعيش الربيع فيما نحن في الخريف...!
سلام....
1/5/1009
https://telegram.me/buratha