علي بابان وزير التخطيط السابق
كيف ستكون صورة المدن العراقية خلال العقود القادمة...؟؟ ، وما هو الشكل الذي ستنتهي إليه مدن بغداد والبصرة والموصل وكركوك وبابل وكربلاء وغيرها من حواضر العراق..؟؟ ، وما هي التأثيرات السياسية والاجتماعية والبيئية التي سيفرزها شكل الاستيطان الحضري المستقبلي.؟!، هل نحن سائرون في الاتجاه السليم فيما يتعلق بمستقبل الاستيطان البشري في العراق.. وهل تحكمنا رؤية إستراتيجية متماسكة تتبعها خطوات عملية جادة لوضع هذه الرؤية موضع التطبيق...؟؟؟
إذا كانت الإجابة على السؤال الأخير بالذات ممكنة من خلال الجزم بغياب الرؤية والفعل الذي ينجم عنها في ظل مظاهر الفوضى وغياب البوصلة التي تعصف بالدولة العراقية منذ عقود والتي لا توفر الفرصة لاعتماد أية إستراتيجية حقيقية حتى في المسائل الكبرى والأساسية التي يتوقف عليها مستقبل ورفاه الإنسان العراقي، فإن التساؤلات الثلاث الأولى حول حال مدن العراق في العقود المقبلة سترتبط بالكثير من المتغيرات التي يمكن أن نورد هنا الأهم منها مع الإشارة الى بعض التقديرات حولها والتذكير بصعوبة المهمة خصوصا عندما تتعدد المتغيرات وتتنوع وتتداخل مع العلم أن العراق بمنظور (الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية) هو ساحة سريعة التغيير عالية الديناميكية مفتوحة لكل أنواع التبدلات العاصفة والمفاجئات ولا يصعب على الباحث المستقل أن يصنفه كذلك استنادا إلى سياقاته التاريخية وحقائقه الموضوعية الراهنة..!!
الأوضاع السياسية ودرجة تماسك الكيان العراقي وشكل العلاقة بين عناصر هذا المجتمع ومكوناته ستكون عاملا هاما في التأثير على حالة المدن العراقية لأنه سيتحكم بنسبة كبيرة بحركة واتجاهات الهجرة الداخلية ويقرر مساراتها وإنسيابيتها ... ولدينا من ممارسات العهد السابق صورا من الهجرة الداخلية المدفوعة بقرار سياسي كما حدث في كركوك وعمليات تهجير الكرد إلى محافظات عراقية أخرى كما شهد العراق حوادث العنف الطائفي التي اندلعت في الأعوام(2005/2006/ 2007) والتغيرات التي تركتها على حركة الهجرة الداخلية والفرز الطائفي الذي أنتجتهفي بعض المناطق حتى بتنا نشاهد داخل العاصمة بغداد وفي غيرها من المدن (معازل) و (جيتوات) مختصة بمكون واحد لا يمكن إخفاء هويتها المميزة...!!
لا نملك مع الأسف إحصائيات دقيقة عن حركة الهجرة الداخلي بسبب عدم إجراء إحصاء سكاني بعد هذه الأحداث لكن لا يصعب على الباحث المتتبع استنتاج أهم ملامح الهجرة الداخلية في العراق ومساراتها، فالهجرة من الريف إلى المدن مستمرة منذ عقود ولا يوجد سبب واحد يدفع إلى الاعتقاد بأنها توقفت أو تراجعت بل على العكس من ذلك فإن أزمة المياه والتصحر قد دفعت بالسكان نحو المدن الكبرى بعد أن تدهورت أحوال الزراعة ولم تعد مصدرا كافيا للرزق بعد أن ذبلت الترع والجداول خصوصا في الجنوب ومناطق الفرات الأوسط، وشهد العراق صورا أخرى من الهجرة الداخلية من الريف الأكبر (النواحي والأقضية) إلى المدن الأقرب ومراكز المحافظات، ومن القرى إلى الأقضية والنواحي، ومع استفحال أزمة المياه وتضرر مناطق واسعة بالتصحر فإن المدن الكبرى ستشهد مزيدا من التضخم والتورم السرطاني وستنشأ العديد من المدن العشوائية وأحزمة الفقر ومنازل الصفيح ما لم يحدث تطور اقتصادي وإداري جذري ينقل المجتمع العراقي إلى آفاق ومدارات جديدة.
وإذا ما ترك نمو المدن على حاله الراهن واستمرت التوجهات الحالية دونما علاج أو مواجهة يمكن لنا أن نتوقع ضعف قبضة الدولة المركزية في المدن الكبرى وارتفاع نسب الفقر والجريمة والبطالة وتراخي قبضة الدولة في مواجهة ظواهر الفساد والفوضى ولا يمكن أن تتغير هذه المسارات السلبية إلا بتغير شامل إيجابي في الأوضاع الاقتصادية وارتفاع مستوى دخل الفرد بشكل واضح وهذه تحديات ليس من السهل إدراكها على أية دولة ....
ربما تثبت تطورات العقود القادمة في بلادنا بأن شح المياه والهجرة الداخلية بسببها وباتجاه مراكز المدن الكبرى ستكون العامل الأكبر والأهم على صعيد نمو المدن العراقية وتحديد ملامحها، وسيحمل ذلك معه(تغيرات عاصفة) ذات تأثيرات عميقة على جميع الأصعدة ولعل أول النتائج الهامة والمباشرة لهذه الهجرة هي استفحال ظاهرة (ترييف المدن) .. تلك الظاهرة التي يعيشها العراق منذ قرن تقريبا ومثله الكثير من البلدان العربية ودول العالم الثالث وبسبب ذلك تغيرات الملامح الاجتماعية والسياسية لكثير من الدول والمجتمعات...
ركز علماء الاجتماع على محوري (التحضر) و (ترييف المدن) وأشبعت بحثا ودراسة فنمو المدن الكبرى واتساعها ظاهرة عالمية تحدث تقريبا في كل دول العالم وكلا الظاهرتين تنتج عن هجرة أبناء الأرياف والبدو إلى المدن وبينما يجمع العلماء على أن التحضر ذات نتائج موجبة فإنهم يعتبرون (ترييف المدن) ظاهرة سلبية والفارق بين الاثنين يكمن في الإجابة على السؤال ... إذا حدثت هجرة إلى المدن فأي القيم والعادات والثقافات ستكون هي الغالبة ...؟؟ .. إذا استطاعت المدينة باتساعها وأنماطها الاجتماعية والاقتصادية أن تهيمن بثقافتها على بقايا (البداوة) و( الترييف) فإن ما سوف يحدث هو (تحضر)، أما إذا بقيت القيم الريفية والبدوية على حالها ولم تفلح حياة المدن في هز القيم والثقافة الأصلية للمهاجرين الجدد إليها فإن الذي يحصل هو (ترييف المدن) وليس التحضر أو التوطن الحضاري...
إن نظرة واحدة إلى المجتمع العراقي وتطوره الاجتماعي خلال القرنين الماضيين يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأننا نشهد الظاهرتين معا (التحضر) و (ترييف المدن) وبينما تحدث الأولى في الشكل والمظهر فإن الثانية تبدو أشد تأثيرا في الباطن والجوهر ... ولا يصعب على الباحث الاجتماعي أن يرصد عمق قيم الريف والبداوة في شخصية الكثير من العراقيين حتى ممن استوطن هو وآبائه المدن منذ سنين طويلة...
قد يعترض علينا مدقق متفحص بأننا ندمج بين (التريف أو الانتماء إلى الريف) وبين (البداوة) فيما هما مفهومان مختلفان وهذا الاعتراض صحيح في عمومه ولكن الرد عليه يأتي من خلال السمات المشتركة بينهما ففي حين تختلف حياة الريف في كونها حياة استقرار على عكس البداوة فإن كليهما يشتركان في محدودية المجتمع وصغره وتضاؤل مفرداته الحياتية وبساطة التجربة الاجتماعية فيه وكذلك الإنشداد العميق إلى القبيلة أو المجموعة الاجتماعية المحددة لغرض الحماية وتبادل المصالح...
ما ينبغي تشخصيه في الوضع الاجتماعي والحضري هو أن (ترييف المدن) في العراق قد انحدر بمستوى الثقافة العامة والاجتماعية فيه وأعاق تطوره السياسي والاقتصادي وهو مسؤول إلى حد ما عن صراع المكونات الحالي و يفاقم من تناقضاتها وإذا ما استمرت هذه الظاهرة وتصاعدت كما تشير التوقعات بفعل الهجرة الداخلية الناشئة عن شح المياه فإننا لا نستبعد حدوث بعض الظواهر السلبية الخطيرة على صعيد السياسة والاجتماع، ولا يأت العلاج الناجع إلا من خلال ( هجمة حضارية مضادة) ترتكز على التنمية البشرية وترتقي بخصائص الإنسان العراقي ونحتاج كذلك لوقف زحف (ترييف المدن) إلى حركة تصنيع واسعة تنقل للمجتمع العراقي بعض سمات المجتمع الصناعي وقيمه وبالإضافة لهذا نحتاج إلى صراع فعلي مع الأمية ونهوضا شاملا كميا ونوعيا بالعملية التعليمية بما يقود في نهاية المطاف إلى(عملية تحضر) حقيقي للمهاجرين الجدد إلى المدن نتجاوز به صيغته الشكلية والهامشية إلى تحضر في الفكر والمضمون والقيم والممارسات..!!
إن النمو السريع المتوقع لمدن العراق في الحجم والسكان ينبغي أن يكون ماثلا أمام أنظار من يخطط للارتقاء بالخدمات وتطوير البنية التحتية في تلك المدن، فما لم تتخذ هذه الحواضر أشكالها (النهائية)أو (شبه النهائية) فإن أي خطط للبنى التحتية وتوسيع الخدمات ستبقى قاصرة وغير كاملة وسوف تكون عرضة للتغيير والتبدل المستمر وهذه العملية ستكون باهظ التكلفة.
من المؤسف أن (التصاميم الأساسية لمدن العراق) لا يتم الالتزام بها على الإطلاق ناهيك عن أن هذه التصاميم لا توضع في أغلب الأحيان من قبل جهات أخصائية محترفة كما لا تأخذ في اعتبارها سيناريوهات النمو وتطور الأنشطة الاقتصادية وخطط توسيع الخدمات وفي حالات كثيرة تتدخل الحكومات المحلية بصورة سلبية وتفرض تصوراتها الخاصة والتي لا تستند إلى منطق علمي في عمومها وتكون حصيلة ذلك كله مدن مشوهة ومناطق عشوائية فقيرة متناثرة هنا وهناك...
إن تكليف شركات عالمية معروفة بتخطيط المدن بوضع التصاميم الأساسية لمدن العراق يمكن أن يتجاوز الكثير من الإشكاليات بل ربما يكون تكليف جهة استشارية عالمية مرموقة بوضع التصاميم لكل مدن العراق أمرا في غاية الصواب كما أن تكليف مؤسسة واحدة سيتيح لها توزيع ومراعاة التخصص الوظيفي لكل محافظة عراقية وتكوين المنظور الشامل والمتكامل لتلك المحافظات معا.
لو تأملنا في شكل انتشار السكان على الخارطة العراقية لوجدنا أن هذا الانتشار قد تشكل تاريخيا بناء على اعتبارات بيئية وقبلية وسياسية لم يعد لمعظمها وجود في الوقت الحاضر وأن معظم عوامل هذا التشكل قد ضعفت أو تلاشت ... لكن عملية إعادة الانتشار بناء على الاعتبارات الاقتصادية والعامة الجديدة لن تكون أمرا سهلا لتكلفتها الباهظة ونتائجها الاجتماعية والسياسية والمتوقعة والحكمة التي يجدر إتباعها هنا ... (دع الزمن يفعل فعله مع التأكد أن العملية تسير في مسارات صحيحة وليس العكس..!!)...
لدي القناعة بأن كثيرا من حواضر العراق ستشهد تغيرات كبيرة في أحجامها وأشكالها ليبس بسبب شح المياه والتصحر فحسب ولكن بسبب تغير مراكز الجذب الاقتصادي ومواطن فرص العمل وهذا يقتضي دراسة معمقة على مستوى العراق ككل وعلى مستوى كل محافظة على حدى من أجل إيجاد معادلة أو صيغة تضمن أفضل شكل لانتشار السكان من حيث القدرة على توصيل الخدمات وتخفيف الضغط على الموارد الطبيعية وكذلك أفضل صيغة للإفادة من السكان في النشاط الاقتصادي العام مع تقدير كلفة التغيير (بشقيها المادي والاجتماعي) كما أسلفنا.
المطلوب أن تخضع عملية اختيار مواقع المدن الصناعية الجديدة والمشروعات النفطية العملاقة ومنظومات الري الحديث التي ستدفع الحاجة لاستخدامها وأماكن المؤسسات الحكومية والعسكرية إلى دراسات تفصيلية معمقة تضمن لنا أفضل انتشار سكاني بأفضل جدوى اقتصادية. الوضع الراهن للانتشار السكاني للقرى العراقية على نحو خاص يقود إلى الاستنتاج السريع بأن عملية تجميع لسكان الريف بات أمرا ضروريا فأحيانا نجد تجمعات لعشرة أو عشرين منزل أو كوخ وحتى دون هذا العدد مما يجعل استحالة توزيع الخدمات لهذه التجمعات المتناثرة ولذلك فالمجمعات السكنية الحديثة وتجميع المتناثر منها لم يحظ بالعناية المطلوبة من قبل المخططين العراقيين وفي الواقع فإن العراق كانت له تجربة متواضعة في هذا المجال فلقد جرب في النظام السابق مثل هذا الأمر في مناطق محددة لكن التجربة واجهت صعوبات عدم الانسجام الاجتماعي بسبب الصراعات العشائرية والتنافر القبلي في المناطق المجمعة والجديدة.
إن العراق لم يجرب كذلك إستراتيجية (بناء المدن والمجتمعات الجديدة) وهو أسلوب لجأت إليه الكثير من دول المنطقة وخارجها فمصر على سبيل المثال سارت على هذا الطريق منذ عهد عبد الناصر (تجربة الوادي الجديد) واستمرت في عهد السادات ( مدينة ستة أكتوبر) وما تلاها ولعل أشهر تجربتين معروفتين في هذا الميدان ما حدث في باكستان حيث تم بناء (إسلام آباد) لتكون عاصمة رسمية للدولة وتنقل لها كل المكاتب الحكومية والرئيسية وكذلك تجربة بناء(برازيليا) في البرازيل لنفس الغرض والتي كلف إنشائها مليارات الدولارات آنذاك.وفي حين درست الحكومة العراقية مثل هذا التوجه في ثمانينيات القرن الماضي واختارت بعض المواقع لإنشاء (مدن متخصصة) إلا أنها لم تخط أية خطوات عملية على هذا الطريق.
هناك خياران لا ثالث لهما أمام العراق... ما بين مدن مترهلة ... ومتورمة ... يضربها التلوث والاكتظاظ وتتردى فيها مستوى الخدمات ... مدن ميتة اجتماعيا ... واقتصاديا ... وبيئيا... وبين مدن سليمة ومعافاة .. مزدهرة اقتصاديا ونقية بيئيا ... تنتعش فيها الحياة بكل صورها ومظاهرها... ويجد فيها سكانها فرصة للتعبير عن ذواتهم وتجسيد طموحاتهم ...
ما بين مدن يختنق الإنسان بين جدرانها الإسمنتية وأكوام نفاياتها وحواضر توفر في جنباتها الأمن والرخاء والعافية... وبالطبع شتان ما بين الخيارين.
علي بابان وزير التخطيط العراقي السابق
https://telegram.me/buratha