زهراء محمد
لكل فصل وشهر من فصول السنه لون وطبيعة. فشهر نوفمبر من اجمل شهور السنة ليس لان تايخ ميلادي فيه .. نوفمبر هذا تزهو فيه الطبيعة حين تخلع الاشجار والنباتات اوراقها الخضراء لتتساقط وهي تكسي الارض باحلى الالوان من الاحمر والبرتقالي والاصفر والبنفسجي وكأنها تتباهى بالقدرة الربانية التي ترسم لنا بريشة ساحرة جنة صغيرة على الارض. وفيه تهب رياح باردة لتأذن بقدوم شتاء جديد، وفيه ترفرف أجنحة أسراب طيور مهاجرة في هجرات جماعية تعبر وتقطع فيها سماء قارات ومحيطات لتحط في بقاع بعيدة.. رحلة مضنية ودقيقة يحار معها العقل عن كيف تهتدي هذه المخلوقات البسيطة من والى مرابع ومواطن هجراتها السابقة وكأنها في حجيج سنوي..
تزدحم الطبيعة وعمارّها، بنشاط ملحوظ يأذن «بموت مؤقت».. فمن تلك الزهور التي تذبل لقساوة البرد، لتستعيد رونقها في الربيع القادم الى تلك الحيوانات التي تستعد للدخول في سباتها الشتوي، ومن أشجار لتهب بتساقط أوراقها جمالاً أخاذا لنا نحن البشر، أو لتتثاقل عنها ثمارها وتسقط لتهب للبشر ولكائنات أخرى غذاء تعينهم، ترى السناجب مثلاً تقفز هنا وهناك لتقظم حبات الكستناء والبندق والثمار الاخرى أو لتسارع بأخذها الى صغارها المنتظرة في أوكارها، ومثل ذلك حال الكثير من مخلوقات الله.. عمّار الارض هذه، كل منشغل في تتبع شأن أو دورة مرسومة لهم بدقة وروعة، دورة حياة عجيبة وفق نظام يثير في المتابع فضولا كبيراً.
وعلى عكس الحيوانات و عن باقي مخلوقات الله، فنحن نختلف بالقابلية على إستيعاب والتبصر بتجاربنا أو «هجراتنا» الروحية والجسدية أو المادية أو لمن حولنا من أخواننا البشر، وإن إختلفت ألوانهم وألسنتهم وأزمنتهم وبلادهم ومجتماعتهم، والبشر يتميز عنها بانه طّور حياته ومعيشته مستخدما دالة وقوة العقل.. ومن حوله سخّر لنفسه الكثير من نعم الله، وأهتدى بقوة العقل والبصيرة الى الاستفادة من قوانين ونواميس الطبيعة.
ولكن نحن البشر، كهذه المخلوقات تمّر حياتنا بمراحل مشابهة وهجرات منها جسدية ومنها روحية غالباً ما تترك فينا آثارها بحلوها ومرّها.. أحيانا الهجرة (الطوعية منها والقسرية) هذه هي عبارة عن تجربة قد تطول (عند البشر) لتأخذ منه سنين طوال من حياتها، وليخرج منها بمآثر تطبع له في أحيان كثيرة نسقاً جديداً في روحه.. وفي حياة كل منّا مهما تنوعت ألواننا ومشاربنا هجرة أو تجربة تصقل فينا حساً أو عزماً مغايراً لما كنا عليه، ولا أدعي جديداً إذا أضفت بانها قد تؤثر سلباً أو إيجاباً على المتلقي.
تجاربنا الشخصية أو تجارب ومحن الآخرين في معظم الاحيان توقظ فينا هذا الحس البشري المميّز.. فمع انتشار وسائل التواصل الحضاري، ففي وقتنا الحاضر غدت خواطرنا تتقارب، ونتشاطر همومنا مع الآخر وإن بعدت المسافات لتترك فينا بالغ العبر والأثر.في الماضي القريب إطلعت على القصة التالية على ما فيها من مواقف إنسانية تحرك في المتلقي عواطف مشتركة مع أبطالها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ **** ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعلمة
حين وقفت المعلمة أمام الصف الخامس في أول يوم تستأنف فيه الدراسة، وألقت على مسامع التلاميذ جملة لطيفة تجاملهم بها، نظرت لتلاميذها وقالت لهم: إنني أحبكم جميعاً، هكذا كما يفعل جميع المعلمين والمعلمات، ولكنها كانت تستثني في نفسها تلميذاً يجلس في الصف الأمامي، يدعى تيدي ستودارد.لقد راقبت السيدة تومسون الطفل تيدي خلال العام السابق، ولاحظت أنه لا يلعب مع بقية الأطفال، وأن ملابسه دائماً متسخة، وأنه دائماً يحتاج إلى حمام، بالإضافة إلى أنه يبدو شخصاً غير مبهج، وقد بلغ الأمر أن السيدة تومسون كانت تجد متعة في تصحيح أوراقه بقلم أحمر عريض الخط، وتضع عليها علامات x بخط عريض، وبعد ذلك تكتب عبارة "راسب" في أعلى تلك الأوراق.وفي المدرسة التي كانت تعمل فيها السيدة تومسون، كان يطلب منها مراجعة السجلات الدراسية السابقة لكل تلميذ، فكانت تضع سجل الدرجات الخاص بتيدي في النهاية. وبينما كانت تراجع ملفه فوجئت بشيء ما!!لقد كتب معلم تيدي في الصف الأول الابتدائي ما يلي: "تيدي طفل ذكي ويتمتع بروح مرحة. إنه يؤدي عمله بعناية واهتمام، وبطريقة منظمة، كما أنه يتمتع بدماثة الأخلاق".وكتب عنه معلمه في الصف الثاني: "تيدي تلميذ نجيب، ومحبوب لدى زملائه في الصف، ولكنه منـزعج وقلق بسبب إصابة والدته بمرض عضال، مما جعل الحياة في المنزل تسودها المعاناة والمشقة والتعب".أما معلمه في الصف الثالث فقد كتب عنه: "لقد كان لوفاة أمه وقع صعب عليه.. لقد حاول الاجتهاد، وبذل أقصى ما يملك من جهود، ولكن والده لم يكن مهتماً، وإن الحياة في منـزله سرعان ما ستؤثر عليه إن لم تتخذ بعض الإجراءات".بينما كتب عنه معلمه في الصف الرابع: "تيدي تلميذ منطو على نفسه، ولا يبدي الكثير من الرغبة في الدراسة، وليس لديه الكثير من الأصدقاء، وفي بعض الأحيان ينام أثناء الدرس".وهنا أدركت السيدة تومسون المشكلة، فشعرت بالخجل والاستحياء من نفسها على ما بدر منها، وقد تأزم موقفها إلى الأسوء عندما أحضر لها تلاميذها هدايا عيد الميلاد ملفوفة في أشرطة جميلة وورق برّاق، ما عدا تيدي. فقد كانت الهدية التي تقدم بها لها في ذلك اليوم ملفوفة بسماجة وعدم انتظام، في ورق داكن اللون، مأخوذ من كيس من الأكياس التي توضع فيها الأغراض من بقالة، وقد تألمت السيدة تومسون وهي تفتح هدية تيدي، وانفجر بعض التلاميذ بالضحك عندما وجدت فيها عقداً مؤلفاً من ماسات مزيفة ناقصة الأحجار، وقارورة عطر ليس فيها إلا الربع فقط... ولكن سرعان ما كف أولئك التلاميذ عن الضحك عندما عبَّرت السيدة تومسون عن إعجابها الشديد بجمال ذلك العقد ثم لبسته على عنقها ووضعت قطرات من العطر على معصمها. ولم يذهب تيدي بعد الدراسة إلى منـزله في ذلك اليوم. بل انتظر قليلاً من الوقت ليقابل السيدة تومسون ويقول لها: إن رائحتك اليوم مثل رائحة والدتي! !وعندما غادر التلاميذ المدرسة، انفجرت السيدة تومسون في البكاء لمدة ساعة على الأقل، لأن تيدي أحضر لها زجاجة العطر التي كانت والدته تستعملها، ووجد في معلمته رائحة أمه الراحلة!، ومنذ ذلك اليوم توقفت عن تدريس القراءة، والكتابة، والحساب، وبدأت بتدريس الأطفال المواد كافة "معلمة فصل"، وقد أولت السيدة تومسون اهتماماً خاصاً لتيدي، وحينما بدأت التركيز عليه بدأ عقله يستعيد نشاطه، وكلما شجعته كانت استجابته أسرع، وبنهاية السنة الدراسية، أصبح تيدي من أكثر التلاميذ تميزاً في الفصل، وأبرزهم ذكاء، وأصبح أحد التلايمذ المدللين عندها.وبعد مضي عام وجدت السيدة تومسون مذكرة عند بابها للتلميذ تيدي، يقول لها فيها: "إنها أفضل معلمة قابلها في حياته".مضت ست سنوات دون أن تتلقى أي مذكرة أخرى منه. ثم بعد ذلك كتب لها أنه أكمل المرحلة الثانوية، وأحرز المرتبة الثالثة في فصله، وأنها حتى الآن مازالت تحتل مكانة أفضل معلمة قابلها طيلة حياته.وبعد انقضاء أربع سنوات على ذلك، تلقت خطاباً آخر منه يقول لها فيه: "إن الأشياء أصبحت صعبة، وإنه مقيم في الكلية لا يبرحها، وإنه سوف يتخرج قريباً من الجامعة بدرجة الشرف الأولى، وأكد لها كذلك في هذه الرسالة أنها أفضل وأحب معلمة عنده حتى الآن".وبعد أربع سنوات أخرى، تلقت خطاباً آخر منه، وفي هذه المرة أوضح لها أنه بعد أن حصل على درجة البكالوريوس، قرر أن يتقدم قليلاً في الدراسة، وأكد لها مرة أخرى أنها أفضل وأحب معلمة قابلته طوال حياته، ولكن هذه المرة كان اسمه طويلاً بعض الشيء، دكتور ثيودور إف. ستودارد!!لم تتوقف القصة عند هذا الحد، لقد جاءها خطاب آخر منه في ذلك الربيع، يقول فيه: "إنه قابل فتاة، وأنه سوف يتزوجها، وكما سبق أن أخبرها بأن والده قد توفي قبل عامين، وطلب منها أن تأتي لتجلس مكان والدته في حفل زواجه، وقد وافقت السيدة تومسون على ذلك"، والعجيب في الأمر أنها كانت ترتدي العقد نفسه الذي أهداه لها في عيد الميلاد منذ سنوات طويلة مضت، والذي كانت إحدى أحجاره ناقصة، والأكثر من ذلك أنه تأكد من تعطّرها بالعطر نفسه الذي ذَكّرهُ بأمه في آخر عيد ميلاد!!واحتضن كل منهما الآخر، وهمس (دكتور ستودارد) في أذن السيدة تومسون قائلاً لها، أشكرك على ثقتك فيّ، وأشكرك أجزل الشكر على أن جعلتيني أشعر بأنني مهم، وأنني يمكن أن أكون مبرزاً ومتميزاً.فردت عليه السيدة تومسون والدموع تملأ عينيها: أنت مخطئ، لقد كنت أنت من علمني كيف أكون معلمة مبرزة ومتميزة، لم أكن أعرف كيف أعلِّم، حتى قابلتك.ياترى متى يتعلم ويتعظ ساستنا من اخطاء الماضي والذي بسبب تلك الرعونة دفن الوف مؤلفة من خيرة شبابنا في مقابر مجهولة الهوية حيث ضاعت اساميهم بين ذرات رمل وصحاري العراق..(تيدي ستودارد هو اليوم الطبيب الشهير الذي لديه جناح باسم مركز "ستودارد" لعلاج السرطان في مستشفى ميثوددست في ديس مونتيس ولاية أيوا بالولايات المتحدة الأمريكية، ويعد من أفضل مراكز العلاج ليس في الولاية نفسها وإنما على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ **** ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن.... في بلدي كم وكم ترى وتسمع مثل هذه القصص المؤثرة عن اطفال فقدوا الاباء والامهات وليس هناك من يحميهم او يرعاهم أو قلب يلتفت اليهم كقلب النبيلة «السيدة تومسون».. نعم آلاف الاطفال من يتامي الارهاب والطائفية أو ظلم الانظمة السابقة بحق أهاليهم تسحق قساوة تجاربهم آمالهم وتُظلم قادم أيامهم، أو عن عوائل عبث بها الدهر وظلم سلطان.. بلدنا ومع ما فيه من خيرات فهو كذلك يطفو على خزائن نفطية وهبها الخالق كنعمة التي وهبها الخالق لتنقلب في بعض الاحيان أما بفعل فاعل أو بفعل سلطان جاهل!!، نعم لتنقلب نقمة على شعبه المسكين الذي في أفضل الاحوال لا يناله من هذا النعمة إلا رائحة حريقها، أو نار حريق تخلفه أسلحة حروب دُفعت أثمانها من قطران هذا الذهب السود لتحرق فيه جسد أبناءه ووتحرق آمالهم بعيش كريم..
بين الحين والحين، عندما يشتد بي وجع هّم ما حل بنا وبأحبتنا، أسارع لأعيد قراءة قصة ذلك الطفل ومعلمته التي إنتبهت له وانتشلته من بؤسه، أتلمس خواطر وآلام ذلك اليتيم الذي إمتدت اليه يد معلمته «السيدة تومسون» لتجعل منه وفيه إنساناً ناجحاً يخدم أقرانه بني البشر.. وعلى عكس ما آل إليه حال ذلك الشاب في النهاية، أستذكر ما حل بإخوتي والكثير من أمثالهم من شبابنا وهم في مراحل دراستهم المختلفة بعد أن طالتهم همجية سلطان أحمق، وظلمه الذي «كان ريحاً فصار إعصاراً» كما يقول المثل، شباب بدلاً من أن ترعاهم دولتهم ومؤسساتها، لتتألق بهم ويتألقون هم بها، أودعتهم غياهب وطوامير سجون مظلمة تحت الارض، ليحلوا - وبعد رحيل جلادهم - في دولتنا الحالية مجرد أرقام في سجلات نزلاء مقابر جماعية متناثرة، تختلط وبعشوائية فيها أرقامهم وعظامهم، بعشوائية خطّط له مقترفوها بقصد إيلام ذويهم وتمويه جريمتهم.
قبل أيام قليلة رن هاتفي المحمول، مبيناً رقما غريبا، المتصل: هل انت السيدة زهراء؟ أجبته بالايجاب.. متسائلة عمن يكون؟ مجيباً: إسمي فلان .. وأضاف بصوت حزين انا صديق احد اخوتك الشهداء.. صَمت بعدها لوهلة مضيفاً.. قدمت مدينتكم قبل أيام قليلة في إجازة ومعي زوجتي وأولادي قادما من بلد بعيد، ويهمني جداً ان أراك، فلطالما وقع نظري على ما تروينه عن إخوتك، وتيقنت إن مصطفى الذي تذكرينه ضمن ذكرياتك، إنما كنا أنا وهو من أعز الاصدقاء في الاعدادية والجامعة.. لم أستطع أن أنبس بكلمة، فوقع كلامه عليّ قد عقد لساني.. إسترسل هو مستدركا ما أنا فيه، يطمأنني بانه فعلاً كان صديقه، موضحاً وبتفاصيل دقيقة عن ذكرياتهما معاً، بل وأضاف بانه ما زال يحتفظ ببعض صورهما معاً، وكذلك أشياء أخرى لأخي مصطفى!!.. متطوعاً بان يعطيني منها نسخاً!!.. خنقتني عبرة، لم أستطع إن أكمل مكالمتي معه، ولكن زوجي الذي كان بجنبي إستدرك الموقف، وبادله الحديث، وبعدها، حدد الاثنان موعداً للقاء عائلي يجمعنا بعد يومين في بيتنا..
يومان مرّا، وكأنهما دهران، والافكار تتسارع في ذهني، فلم أصدق ما سمعت في تلك المكالمة المفاجئة. وما قد يتمخض عن هذا اللقاء؟.. ومن هو هذا المتصل؟.. يا ترى هو فعلاً صديق أخي كما إدعى؟.. دقات رتيبة خافتة على الباب، أسرع زوجي الى الباب مرحباً بهم بحفاوة، بعد أن جلسوا، أطبق صمت رهيب على الطرفين، وكان واضحاً عليه الارتباك وعلائم الأسى ترتسم على وجهه، دموعي كانت تغالبني وأنا في أشد الشوق لأسمع منه عن أخي، عزيزي، مصطفى.. بعد هنيهة بادلهم زوجي الحديث مستفسراً، حاولت زوجته إسعافه بعد أن بلغ به أيضاً التأثر الشديد، حين بدأت هي بايضاح الموقف، وكيف إن زوجها كان يتكلم دوما عن صداقتهما الحميمة هو وأخي مصطفى، زميله في المرحلة الاعدادية والجامعة، والاثر الكبير الذي تركه إختفاء مصطفى أو تغييبه من قبل النظام البائد على حياته، ذلك الحدث الذي أضطره هو أيضاً لمغادرة العراق خلسة بعد تخرجه. وبعد لحظات ليست بقصيرة بدء هذا الصديق الوفي يتكلم وبولع عن ذكرياتهما وعن تلك الايام الجميلة سنين الدراسة، مضيفاً بانه منذ فترة ليست بقصيرة يحاول ان يتقصى الوسيلة للاهتداء، والالتقاء بنا. فهو يحتفظ ببعض الصور تجمعهما معاً، يتكلم عنه بحسرة ومسحة حزن لا تفارق وجهه، يتوقف في حديثه مراراً لغصة تغالبه، يردد ما كانا يتبادلان من أحاديث، وعن وشائج صداقتهما وعمقها.. ساعتان مضت لم أستطع البوح بكلمة، دموعي تنسال على خداي غير مصدقة لما أسمعه منه، يتحدث هو بينما أنا، ترتسم صورة أخي أمام عيناي.. بعدها تشجّع وأردف بانه حضر ومعه صورا لهما، ليعطيها لنا، بل وأكثر من ذلك فهو ما زال يحتفظ برسوم وتخطيطات هندسية بيد مصطفى الذي كان مولعاً بها، كم أفرحتني المفاجأة هذه، وبلهفة رحت أقلب الصور، وكيف على ظهورها تبادل هذان الصديقان كلمات وأواصر الود والمحبة مع ذكر أماكن إلتقاط الصور بتواريخها.. رحت أقرأ بفخر ما سطّر قلب أخي لصديقه من عبارات وفاء تلتمس فيها نكهة زمن جميل، صدق، براءة، عاطفة، عبارات شباب يتنفس فيها أمل في الحياة!! ولكن .. آمال شباب لم يعرفوا ما كان يخبيء لهم القدر.. ويا للأسف!! على ظهر إحدى تلك الصور عبارة لأخي تقول: عسى أن لا نفترق!!..وتحتها بسطر، وبخط آخر، كلمة أخرى تقول: ولكن؟..نظرت الى ضيفنا، فسارع متلعثما: نعم العبارة الاولى هي موجهة ليّ من أخيك مصطفى وبخطه، الله يرحمه.. وأضاف أما كلمة (لكن؟ ..) فقد أضافها هو في المنفى بعد سنين طوال ينتظر فيها أن يسمع خبراً عن أخي!! لاذ الجميع بصمت، فماذا عساك أن تقول في مثل ذلك؟ولنبل أخلاقه وفرط محبته لذكرى صداقتهما، كان أطلق إسم مصطفى على إبنه البكر وفاء لذكرى أخي، وكنت أثناء اللقاء ذاك كلما نظرت الى الصبي مصطفى شعرت براحة ودفء يغمران صدري، لم أوفق بأن أجد ما أسعف به نفسي من كلمات لأبين لهم إمتناني الشديد لكل ذلك. نعم حمل لي هذا الصديق طيب ذكرى، لطالما إشتاقت روحي الملتاعة لما يخفف عنها.. فجاء حاملاً معه صور وريح الاحبة، وقصص عنهما أدخلت سكينة وراحة على قلبي، صحيح إن الموت حق على بني آدم، ولكن كما علمتنا الحياة إن ما أشد ما يحّز في الروح هي عندما تفقد أحبة لك وهم في مقتبل عمرهم، فكيف إذا بهم قتلوا بدون ذنب إقترفوه!! وكيف إذا ضاعت عنك قبورهم وأماكن رفاتهم..نعم، حمل لي هذا الصديق طيب ذكراكما.ونعم، يا عزيزي مصطفى فإن صديقك وفّى بأمنيتكما، فانت في قلبه لا زلت.. ولا تفترقان. ولكن، كما يقول الجواهري:
حَمَلَتْ إليك رسالةَ المفجوعِعينٌ مرقرقةٌ بفيضِ دموعيلاتبخَسوا قَدْرَ الدموع فانهادفعُ الهموم تَفيضُ من يَنْبوعللنفس حالاتٌ يَلَذُّ لها الأسىوترى البكاءَ كواجبٍ مشروعوأمضَّها فقدُ الشبابِ مضرَّجاًبدمائه من كفِ غير قريع
نعم أمضّ ما فيها، ما زال غدر الزمان شاخصاً، وأمضَّها فقدُ شبابِ مضرَّجين بدمائهم، منهم اخوتي مصطفى، فاضل، ابراهيم، زهير، وليلتحق بهم حنين قلبي اخي وعزيزي هادي، وكذلك أولاد عمومتي وأقاربي، وآلاف آخرين غيرهم.. فتكت بهم روح شريرة خيمت طويلاً على أرض العراق، بل لم تنقشع. نعم خيمت طويلاً، وفي العراق لنا اليوم في ذكرى إستشهاد إمامنا أبي عبداللّه الحسين (ع) وأهله وأصحابه عبرة خالدة في قلوب وعقول من يعرف ويحترم الانسانية رغم مرور كل تلك المئات من السنين، وصدق من قال فإن كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء. فكم في مثل هذه الايام من شهر محرم الحرام، شمرتم عن سواعدكم وانهمكتم في مراسيمها بقلوب نقية ونيات سليمة خالصة؟ وكم طفحت قلوبكم بحب سيد الشهداء الحسين (ع) ومبادئه؟!!
واتذكر كلمات اخي مصطفى يومها عندما اشتد الخناق علينا وكنا محاصرين في بيوتنا، يومها قال مخاطباً أخي: فاضل نحن كتب علينا الموت.لقد حفرت قبورنا ها هنا.. ثم سمعت ابي يتمتم مع نفسه مردداً: وهذا ماسيكسر قلبي يا أولادي!! .. مات ابي مكسور بفقدكم.. حين سمعت ذلك منه، كأنما حلّت على رأسي صاعقة.
اقول نعم يامصطفى، أجسادكم توسدت تراب العراق، ولكن أين؟؟ ومتى ستقُر عيوننا، وتسكن اللوعة؟نقول ذلك، ولكن لنا في أمير المؤمنين الامام علي (ع) وما إعتصر قلبه، ملاذا حين يخاطب الزهراء (ع) بعد دفنها
مالي وقفت على القبور مسلماًقبر الحبيب فلم يرد جوابيأحبيب ما لك لا ترد جوابناأنسيت بعدي خلة الأحبابقال الحبيب وكيف لي بجوابكموأنا رهين جنادل وترابفعليكم مني السلام تقطعتمني ومنكم خلة الأحباب
*****
ولن تطوي قصصكميا احبتيوحشة منفىولا قسوة زمانوعليكم مني السلام
زهراء محمد
https://telegram.me/buratha