الزمن يمر والسنوات تتعاقب وذكر الحسين يزداد رفعة علوا، إنها الكرامة الكبرى التي خص بها الله تعالى الإمام الحسين عليه السلام، دخل محرم فأعادتني مظاهره سنة واحدة الى الوراء عندما كنت في العراق وتذكرت المشاة الذين عايشتهم عن قرب، رأيت مئات الألوف في مسيرة طويلة لا نهاية لها رأيت الرجال والنساء، الكبار والصغار، الأصحاء والمرضى، رأيت المضايف على طول الطريق وفيها أناس نذروا أنفسهم لخدمة الزوار وإطعامهم، نعم ما مشيت حينها بل كنت متوجها الى كربلاء بالسيارة ولكن القلب كان يمشي معهم والنفس كانت تهفو إليهم والروح كما باقي الأرواح تشتاق الى دوحة الفداء والتضحية، حيث يجتمع على صعيد تلك المدينة ملايين العشاق والمحبين، في ظلال الأنوار القدسية والتجليات النقية للإنسانية الحقيقية المتمثلة بالتضحية والإيثار والعطاء وحب الخير للناس.
وقد حدثني احد الأخوة الذين لا يرون ضرورة المشي بأنه عندما وصل بالسيارة الى ما يقرب 25 كيلومترا من كربلاء منع رجال الأمن السيارات من التقدم أكثر لاستحالة ذلك بسبب كثرة الناس وامتلاء الطريق المؤدي الى كربلاء بالزوار، فلم يبق أمامه والقول له: إلا المشي نحو المدينة مع المشاة اضطرارا، لقد كان المنظر مروعا والمشهد مؤثرا، لم نشعر بالتعب والإرهاق مع التدفق المليوني وكثرة المواكب المنتشرة على جانبي الطريق، ولقد تمنيت حينها لو أني كنت قد نويت المشي ابتداء لكثرة ما رأيت من المواقف الإيمانية والمشاهد الإنسانية، وكانت اللغة السائدة حتى بلوغ المدينة هي لغة القلوب.. انتهى كلامه.
لا شك أن الشعائر الحسينية في تطور ولا جدال في أن المشي السنوي أصبح حقيقة واقعة ولا تقدر قوة في الأرض على إيقافه مهما بلغت درجة تأثيرها ثم انه أمر مباح لا شيء فيه، المشي صار قضية عالمية إذ لا تبقى وسيلة اعلامية في الدنيا لا تراقبها وتنقل أحداثها مع العجب الشديد من احتواء مدينة صغيرة مثل كربلاء لهذه الحشود البشرية.
المشي في ظاهره حالة عفوية جميلة مقدسة يراد منه ربط أحداث النهضة الحسينية بإحداث الحاضر والمستقبل، وينبغي أن تكون رحلة تربوية ثقافية اجتماعية دينية هادفة وماراثون روحي نبيل، ليعود الزائر من مشيه وقد تعلم أشياء كثيرة تفيده في تغيير نفسه الى الأحسن، يعود إنسانا جديدا يحب العمل والبذل والإنتاج.
المشي واقع ويجب التعامل معه بموضوعية وواقعية تامة لتحقيق مقاصد عليا في التربية والتوجيه الجماهيري، ويجب أن لا يقتصر واجب الدولة على الجانب الأمني فقط بل يمتد ليشمل التركيز على جانب الخدمات وتخصيص مسارات مريحة للمشاة غير الطريق المخصص للسيارات.
عاشوراء سواء شئنا أم أبينا حالة متجذرة في شعور المسلمين بجميع طوائفهم، والمطلوب هو الإتباع الواعي للإمام الحسين وتحويل هذا الإتباع الى ظاهرة واضحة مرئية منتجة مفيدة مؤثرة فاعلة مغيرة، وكما قال العلامة محمد تقي المدرسي مؤكدا على الإتباع الواعي غير العشوائي: يجب أن نعتبر الأئمة أحياء يعيشون بيننا وليسوا أموات.
وهذا قول يحتم علينا أن لا نحول عاشوراء الى مشروع بكاء صرف بل نحوله الى مشروع عمل مستمر وتغيير الكثير من الممارسات وان لا نجعل الحسين كما نريده بل نكون كما يريدنا هو، والمنابر الحسينية يمكن لها أن تتحول الى جامعات مفتوحة تعطي كل ما يحتاجه الإنسان من علوم في حياته اليومية ، وتحويل الحسين الى قضية عالمية، لا سيما وانه لم يبق ارض على هذه الدنيا لم يصل إليها صوت الحسين وذكره، فالحسين جامع للكلمة موحد للأمة، وعلينا أن نعيد القيادة للإمام الحسين ليقود المسيرة بسيرته السمحة، لنحصل على التغيير الفعلي الحقيقي ، يجب أن نعيد فهم الحسين ،نفهمه كما هو وليس كما نشتهي نحن ، وللأسف فان كثيرا من خطباء المنبر الحسيني لا يعرفون كيف يقدمون الحسين الى العالم بالطريقة الصحيحة ، فثورة الإمام ثورة سلمية إنسانية ومستمرة وستبقى ما بقيت الدنيا، وقد تعلم السيد الخميني عليه الرحمة من الثورة الحسينية ما جعله يقوم بأعظم ثورة سلمية معاصرة في التاريخ الحديث حيث كان المتظاهرون وفيهم الرجل والمرأة والطفل يحملون الأزهار مقابل بنادق السلطة ، وسلمية الثورة الحسينية هي نفسها التي ألهمت السيد السيستاني ليقوم بدوره السلمي المشهود في العراق والذي نتج عنه حقن الدماء وإقرار حرمة النفوس والأعراض والأموال في دولة وكانت مقبلة على حرب أهلية طاحنة و أحداث دموية مريعة.
فسلام على الحسين يوم ولد ويوم نال الشهادة غريبا مظلوما ظامئا ويوم يبعث حيا مع الأنبياء والصديقين والشهداء.
21/5/1219:تح: علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha