المقالات

الحسينيون لا يعتدون...

849 22:15:00 2013-01-11

خالد حسين الشطي - كاتب كويتي

في الجوار، إلى الشمال من بلادنا، حيث تنـتهي الصحراء القاحلة بخضرة الحـضارة وسـوادها، وأمواج الرافـدين المتلاطمة، وجـديد الإسلام الذي جمع البصرة بالكوفة، فالتقى الفقه باللغة، والتفسير بالحكمة، والرأي بالحديث، وأسس في حاضرنا لربيع العرب (حقاً، قبل أن يختطفه الأدعياء) الذي أطاح بطاغية العصر... تتشكل ظاهرة فريدة، وتشرق شمس جديدة من المغرب! في أداء مُعجز يحكي علامات آخر الزمان، وصور يوم الخلاص، والوعد بنشر العدالة وتفوُّق القيم حتى ترعى الشياه والذئاب تحرسها!

لقد عادت القداسة إلى الظهور كما لم تكن في يوم، وعاد الطُهر إلى التألق كما لم يظهـر من قبل، وعاد الشعب إلى دينه واحتكم إلى قيم مذهبه، ورجع العـراق إلى هويته التي جعلـت أمير المؤمنين ينـقل عاصمته من الحجـاز إليه... فلتأمن بلادي سرباً، ولتهنأ عيشاً، ولتقرُّ عيناً... فالحسينيون لا يعتدون.

هذه الملحمة المنعدمة النظير التي سجلهـا العراقيون للـسنة العاشرة على الـتوالي، ما يثبت أصـالتها وينفي كـونها حالة طـارئة ومشهدا عـارضا، في زحف مليوني يتقدَّم سيراً على الأقدام لمئات الأميال، ما زال يطَّرد، ليناهز هذا العام ثمانية عشر مليون نسمة، أخلى البيوت وأفرغ المدن في جُل العراق، ووجّه الشعب وصبَّه كالسيل الجارف تجاه كربلاء...

هذه الملحمة لها عطاءات وتحمل مؤشرات، هي في واقعهـا وحقيقتهـا إلهيـة ربانـية، سـماوية لا أرضـية، بل عـرشيـة لا خلقية، مما يعجـزني ويعجـز غيري عن الإحـاطة بهـا، بل إدراك أدنى مراتبها... ولكن هذا لا يمنع استـشراف عطائها السياسي ورسـالتها الاجتماعـية، ووجوب أن نقـرأها بوعي ودقـة، ونتمعن فيهـا بحكمة وكياسة، وبين هذا وذاك، أرى فيها ما يوفِّر مادة يمكن أن تُخرج بلدي من معضلة تاريخية ما انفكت تعاني منها وتتهددها!

إن ملحمة زيارة الأربعين التي يخطُّها العراقيون في كل عـام تقدم ثقافة جديدة، تفـتقدها المنـطقة، بل لا وجود لهـا في العالم بأسره، وهي تحمل، على الصعيد العملي لا النظري، رسالة القيم الإنسانيـة والكمال البشري في ذروة تناهز المجتمع الفـاضل، بعد أن عجز الساسة والقادة عن خلق المديـنة الفاضلة! إن مجتمعاً يبلغ هذا المستوى من معاني الحب والسلام، والتكافل والتعاضد، والتراحم والتواد، والإيثار والإحـسان، والبذل والعطاء، والجـود والكرم، والتسامي على الفـقر والعوز، وكل الجراح التي تـثخنه، فيتوسل بالضـيف ويرجوه أن يتناول من طعـامه أو يتقبَّل خدمته... يكون قد انتقل إلى طور حـضاري نادر في قاموس الإنسانية ومعـانيها، طوى رذائل الغدر والخيانة، وتجاوز العـنف والقسوة، وجـانب الجلافة والصلافة، ودفن كل الرذائل والقبائح في قبر بتكريت، أو أرسلها إلى حضيض يلاقي صـداماً وبعثه، وبقاياه التي ترقص على جراح الشعب العـراقي، وترفع صوره في الفلوجة والأنبار، ومن خلفها التي تعوي برجع صدى خطابه المنحط من طائفيين يترحمـون عليه وتكـفيريين لا يحجـزهم عـن الإرهاب والـتفجير إلا العجـز وعدم الـقدرة، وفي أول فـرصة مـن المكنـة ستراهم يتطايرون أشلاءً ويتوزعون قطعاً من نيران تتسابق إلى جهنم وبئس المصير. إن أهم مـا يستوقفني ككويتي، بعد أن أسجل عجزي عـن الإحاطة بعظمة المشهد كإنسان ومسلم وشيعي... هو الراحة والاطمئنان والسكينة لعودة هذا الشعب إلى قيمه التي غيبتهـا عنه حكومات الجـور السابقة مـن شيوعية إلى عـارفية إلى بعثية، بدأت في المد الأحمر بمطالبة عبد الكريم قاسم بالكويت، واستمرت في العهد القومي الناصري في معركة الصامتة، ثم في البعث القذر وغزوه الغاشم، وانتهاء بحمَّى التكفير ونذُر القاعدة التي تريد الإفساد في كل الأرض، وأدناها منهم وأقربها إليهم الكويت!

إن عراق اليوم يختلف عنه في الأمس، والأمس البعيد...

ولا أريد الحكومة والنظام السياسي الـذي يتولى عراق اليوم، فـطالمـا تغيرت الحكومات وانقلبت، ولا أريد الأحزاب والمنظمات الفاعلة والمتحكمة، فهي الأخرى لا يمكن الرهان عليها، إنما أريد الملايين التي تتـزاحم، ولكنها لا تتـعارك ولا تتقاتـل، بل تتسابق على الضيافـة والبذل والعـطاء، وتتفنن في خدمة بعـضها وإظهار المحبة والذلة للإخوان حتى تنذر فئـات نفسها لـتغسل أقدام المشاة وتمسح أحذيتهم! مجسـدين قولـه تعالى «رحماء بـينهم»، و«أذلة على المؤمنين»... فأنت أمـام ظاهرة فـريدة، وحالـة وتر ليس لهـا نظير في الحاضر والماضي البشري، حريٌّ بمراكز الدراسات العالمية أن تلاحقها وتجري الأبحاث المعمقة والموسعة عليها، كما ينبغي للاستراتيجيين الكويتيين، وصناع القرار على المدى البعيد في هذا البلد، أن يدرسوها ويتحركوا تجاهها بذكاء.

وبدوري، اقترح أن تنسق حكومتنا في المستقبل، وتعد وتعمل للمساهمة الفاعلة في هذا النشاط الإنساني العظيم، عبر افتتاح مراكز خدماتية ومضايف شعبية على امتداد هذه المسيرة المليونية، باسم أمير البلاد والحكومة الكويتية ومجلس الأمة والهلال الأحمر والجمعيات الإسلامية السنية والشيعية على السواء، ليرى المواطن العراقي العادي الذي لقنته الأنظمة السابقة عـداء الكويت وبغض الكويتيين، ان الكويت حاضرة معه في أهم شعائره، تسـاهم وترفـد وتعين، ويشهـد بنفسه بـطلان الدعايـة التي صورت له الكـويت حاضنـة للتكفير والإرهاب الذي يفجر ويقتل الأبرياء من أبنائها، ويمتهن مذهبها ومقدساتها. لا شيء ينـتزع الأضغان ويخـمد الثار ويطفىء الأحقاد كخطـوات من هذا القبـيل، ولا شيء يجتث أسباب الـعداء والتوتـر بين الجارين، مثل أن يرى العراقي أخاه الكويتي معه وإلى جانبه في مثل هذا الموقف والمشهد العظيم.

لست أدعو لإلغاء وتعطيل سياسة الالتقاء مع الأحزاب العراقية بمختلف توجهاتها، ولكني أدعو لاستراتيجية تتجاوز سياسات هذه الأحـزاب التي تحكـمها مصالحها الخاصة، وتحركها أحياناً أجندات عالمية وإقليمية، إلى اتصال مباشر بـالشعب العـراقي، يخلق المودة والرحمة بيننا، ويقطع الطريق على أي تهديد يطولنا في المستقبل، في ظل قاعدة شعبية ستتمرَّد هذه المرة على أوامر قادتها، كما أبت شراء بضائع الكويت المنتهبة في المرة السابقة.

العراقيون اليوم ليسوا بحـاجة لمساهمتنا في هـذه المسيرة، والمنافسة بينهم والتسابق بلغ الذروة والقمة التي لم توفـر إطعام الزوار واستضافتهم على موائد الشواء وأطباق المأكولات البحرية! ولا غابت عنها أي صورة وشكل من الضيافة يمكن أن يحدس بها كريم...

نحن من بحاجة إلى هذه المساهمة، لبناء ركائز علاقة جديدة تبني لجوار مصيري لن ينفك مع العراق، وجغرافيا هو قدرنا الذي يجب أن نتعايش معه، ونتطلع معه لأمان واستقرار.

خالد حسين الشطي

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
الكوفي
2013-01-12
مقال رائع ورسالة محبة واخوة وتوحد في طريق العز والشموخ وقطع الطريق على الاحزاب والحكومات التي تريد او تفكر مستقبلا في تفتيت اللحمة بين الشعبين الجاريين المسلمين مثلما قام بذلك الطاغية المقبور في غزوه لهذا الشعب الطيب ، تحية لكاتب المقال ولجميع الاقلام التي تعزز اواصر الاخوة والمحبة والتواصل .
زيد
2013-01-11
مقال رائع و يحمل معان قيمة
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك