في جدل المثقفين وأنصافهم وأشباههم، تجد فئة رفعت من مستوى اعتناقها لبعض المفاهيم السياسية إلى مستوى الاعتقاد الإلتزامي..وهو اعتقاد يقود بمتبنيه إلى ظلامية التشدد لما يعتقدون به..! ولربما لم يدر بخلد الكثيرين من المنظرين السياسيين ومقعدي قواعدها، أنه إذا كانت العقائد السابقة لظهور مفاهيم مثل الليبرالية والمجتمع المدني والديمقراطية وغيرها من مفاهيم سياسية لم تكن متداولة قبل قرن ونصف تقريبا، وهي عقائد تتمثل بالأديان مع هامش بسيط لثقافات تدور أيضا في نفس مدار الأديان، وكانت العلاقات المجتمعية مستقرة إلى حد بعيد، لأن الأديان سيما السماوية منها لا تدعو إلا إلى الفضائل، إلا أن المفاهيم الجديدة ـ التي دعونا نصفها مثلما يصفها معتنقوها بالمفاهيم المدنية ـ تدعوا إلى الانتقال من ثـقـافـة الاستبداد إلى ثـقافة التعددية، فإن هذا يمثل بالحقيقة تحديا لمن فتحوا عيونهم على الاستبداد واستظلوا بظل أفيائه الحالكة، ناهيك عن أن معتنقي المدنية أسقطوا ثقافة الاستبداد على الأديان، وهو إسقاط لم يأت عن خطأ بل عن تصميم...!
المدنيون، وهذا هو الاسم الذي يفضلونه لأنفسهم، لم يقرؤوا حقائق الأديان، بل نظروا الى ما فعله الحكام باسم الدين، فأعتبروه هو الدين...في أوربا كان مثالهم ذلك التحالف المرعب بين الكنيسة والملوك، والذي قاد أوربا إلى سلسلة من الحروب تحت راية الصليب ومحاكم التفتيش، لكن الكنيسة اكتشفت لاحقا خطأ تحالفها مع الملوك والأباطرة، وأنها خسرت الرب والشعب! فانسحبت إلى أضيق حيز متاح لها، واكتفت بدولة واحدة فقط قائمة على أساس ديني على مساحة أكبر بقليل من قرية، وأطلقوا عليها الفاتيكان، كان الاتفاق بين الطرفين ما لقيصر لقيصر، وما لله لله..كان الحاكم ندا للخالق عز وجل..
في بلاد المسلمين، ومنذ قرابة أربعة عشر قرنا كل الحكام تقريبا عدا قلة لا تشكل وزنا إحصائيا ،كانوا يحكمون على أساس ديني كما يبدو من عناوينهم، معظمهم كانوا ""خلفاء" ، والخليفة حاكم زمني وديني، ولكن خليفة الله يدور في اليوم والليلة على ألف من الجواري، كانت الخمور والغلمان في بلاطهم هي الطابع الرسمي، مثلما كان يفعل هارون، ويذهب في العام نفسه ماشيا إلى الحج، في ازدواجية كانت تتكرر مع كل الحكام الذين كانوا قبله وبعده، عدا واحد فقط إزدرى الدنيا وما بها، فقال لها: يا دنيا غري غيري..!
فيما يلي من زمن، في دولة الترك العثمانية كان السلاطين خلفاء أيضا! وبحثوا عمن يصطنع لهم تجويزا فقهيا لأن يكونوا خلفاء، ووجدوا من يفعل ذلك فيسيدون مذهبه على كل البلاد الإسلامية، وهذا ما يفسر شيوعه، وحصل تعايش بينهم وبين فقهاء هذا المذهب أستمر قرابة ستة قرون من الحكم العثماني، وانبعثت رائحة هذا التعايش مجددا في العهد الأردوغاني...
كلام قبل السلام: بين الزمنين جاء الأجلاف الوهابيون بدين جديد، وعقدوا حلفا تخادميا مع آل سعود، وهم أجلاف من نفس الطينة....ونشأ أغرب نظام حكم على وجه الخليقة، نظام يحاكم المذنبين وفقا للشريعة الإسلامية كما يدعي، وينفذ الأحكام بحد السيف، لكن العائلة الحاكمة مجموعة من أمراء روتانا...!
سلام.....
https://telegram.me/buratha