الثوابت الوطنية: تتلقفها الألسن ويداولها الساسة، ولا يكاد يخلون بيان من بياناتهم لهذه العبارة التي أمست "ثابتا" وخبزهم اليومي الذي يتغذون به على قصاع رؤوسنا، كلما أرادوا أن يلعبوا لعبة جديدة...من خلالها يحاولون دوما أن يؤكدوا إخلاصهم لما يعتنقون، وما يعتنقون إلا أنفسهم..لقد باتت أداة من الأدوات السياسية مع أنها غيمة تعيش وتنمو في القاع النتن لوادي التنظير السياسي...
الثوابت الوطنية من أشد العبارات السياسية غموضا، ومع ذلك فهي من أكثر التعبيرات تداولا..وتسألونهم ـ أي متداوليها ـ عن مدلولها الفكري أو تطبيقاتها على الأرض، فيحارون جوابا ويلجئون إلى الماء بالماء تفسيرا بعد جهد...
في عصورنا الحديثة ولأن التواصل والاتصال بات أكثر يسرا، تشكل لكل منا مفهوم للوطن يمتد مداه حسب مقدار تواصله ومديات اتصاله. الوطن بات لكثير منا أبعد من القرية والمدينة والولاية والدولة ..
دعونا نقلب تاريخنا الإسلامي وتراثنا العقيدي باحثين عن جذر لتعبير الثوابت الوطنية..بحثنا..فلما نجد لها أصل ولا فرع. إذا هي من وافدات عصر التنوير كما يسميه المنظرين الغربيين، أو عصر احتلالهم الفكري والثقافي لعقولنا كما ينبغي أن يسمى..
في تراثنا العربي اللغوي، هذا الذي نوشك أن نتخلى عنه لأنه بات خطرا على العروبجية وأدعياء الوطنية لأنه يفضح مآربهم، وحيث لا مرابط لأفراسهم فيه، نقرأ في معجم العين: لمن هو من هو، الخليل بن أحمد الفراهيدي: "الوطن: موطن الإنسان ومحلّه وأوطان الأغنام: مرابضها التي تأوي إليها، ويقال: أوطن فلان أرض كذا، أي: اتّخذها محلا ومسكناً يقيم بها"...
وفي القاموس المحيط «المعنى اللغوي لكلمة وطن: منزل الإقامة ومربط البقر والغنم، الجمع أوطان، ووطن به يطن وأوطن: أقام. والإقامة قد تكون في قرية أو مدينة، وبذلك تصلح المدينة أو القرية لأن تكون وطناً».
في تراثنا الإسلامي الفقهي؛ حيث نحب نعم، نتعصب..لا، وحيث لا تعصب حتى إلى الأوطان مع حبنا الشديد لها، ثمة معيار إسلامي للوطن تحدده الصلاة: الوطن محل الإقامة، فمن كان له وطن فانتقل عنْه واستوطن غيره، ثم سافر فدخل وطنه الأول قصر في صلاته؛ لأنه لم يبق وطنا له...
تغيير الوطن جعل مقياساً للقصر في الصلاة، ألا ترى مثالاً برسول الله حيث أنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بعد الْهجرة عد نفسه بمكة من الْمسافرين، وهذا؛ لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبْطل بمثْله دون السفر، ووطن الإِقامة يبطل بمثْله وبِالسفر وبالْأصلي...ولم يعتبر نفسه في وطنه، لأن وطنه قد صار المدينة، أي أنه قد اتخذها مسكناً ومقاماً دائما.وتعلمون أن مكة محل مولده وبيت أهله وعشيرته..
وكنتيجة للبحث بما أدى إلى نشوء العصبيات، يمكننا القول إن فهما مستحدثا للوطن قد نشأ وفقا لمفهوم من يعتنقون تعبيرات السياسة الحديثة، كونه بلداً ترتبط فيه جماعة من الناس يتعين أن تلتزم بسيادة الدولة وإطاعة الحاكم..وهذا بالضبط ما يعنيه الساسة باستخدامهم المفرط لعبارة الثوابت الوطنية..سيادة الدولة وإطاعة الحاكم صلح أم فجر، لأنه الباب الذي من خلاله يتسيدون على رقابنا مثلما تسيدوا من قبل...
كلام قبل السلام:مثلما في اللغة، في الإسلام أيضا لا مرابط لأفراس الساسة وألاعيبهم...!
سلام.....
https://telegram.me/buratha