حافظ آل بشارة
رغم ان مشروع تقسيم العراق مشروع ساخن وشائع الا انه لم يكن يحظى باهتمام الرأي العام العراقي هذه السنوات ، ربما لابتلاء الشعب بمشاكل اكثر اثارة للقلق ، ولكن بمجرد ان بدأت تظاهرات الانبار عقب اعتقال حماية رافع العيساوي بتهمة الارهاب بدأت رائحة مشروع تقسيم العراق تشم في الآفاق كرائحة قذيفة كيمياوية لها عطر التفاح لكنها قاتلة . مشروع تقسيم العراق قديم وكان يشغل الاوساط الأمريكية والبريطانية والاسرائيلية منذ زمن بعيد ، ويقول مستشارو واشنطن ان دول المنطقة العربية والاسلامية من الناحية الادارية والسياسية ليست كيانات راسخة او عريقة ، فقد كانت الدولة العثمانية تدير المنطقة باسلوب الولايات ، وترتكز تلك الولايات على مدن مركزية كبرى كبغداد والقاهرة ودمشق وغيرها ، ولم تكن هناك دول بل هي دولة واحدة ورثها العثمانيون باسم الاسلام من بقايا العصر العباسي والدويلات التي نشات على انقاضه ، لذا لم تنشأ في الوسط الاجتماعي للمنطقة اي ثقافة قطرية ، ولم يع الناس معنى ان تكون هناك دول عديدة في العالم الاسلامي ، وخلال الحرب العالمية الاولى عقدت الدول المتحالفة ضد المانيا مؤتمر سايكس بيكو سنة 1916 لتقسيم ولايات الدولة العثمانية التي وقفت في الحرب مع المانيا ، وهكذا نشأ العراق المكون من ثلاثة اقاليم هي بغداد والبصرة والموصل ليكون دولة ذات حدود خاضعة للاحتلال البريطاني ، والى جانب العراق تكونت بالطريقة نفسها اكثر من 20 دولة في المنطقة العربية ، خاضعة للاحتلال الغربي ، وبعد معاهدة سايكس بيكو بسنة واحدة جاء وعد بلفور البريطاني بتكوين وطن قومي لليهود في فلسطين ، وعند اعلان دولة اسرائيل سنة 1948 دخلت الدول العربية المحيطة باسرائيل حالة توجس وعداء وأخذت تعد العدة للانقضاض على ذلك الكيان المغتصب الدخيل ، ومنذ ذلك الوقت بدأت اسرائيل تشكل نظريتها الأمنية بعدم الاكتفاء بسايكس بيكو ، فقد شهدت المنطقة ظهور دول قوية كمصر والعراق وسورية والسودان تهدد أمن اسرائيل لو قادها حكام مخلصون يحظون بدعم شعوبهم ، كما تخشى اسرائيل من التفوق السكاني لدول المنطقة ، والتفوق الاقتصادي الناتج من عوائد النفط ، والتحولات السريعة التي قد تؤدي الى تغير انظمة الحكم في بعض العواصم ، لذا بدأت النظرية الأمنية الاسرائيلية تركز على موضوع تفتيت دول المنطقة الى كيانات اصغر على اساس اثني ، لكي تضمن اسرائيل عدم نشوب حرب ضدها ، وفي النهاية تكون دولة قوية محاطة بدول صغيرة متصارعة ، متنوعة الصراعات ، حدودية وبترولية ودينية وعرقية ، الغرب مساند لاسرائيل باعتبارها تجمعا عالميا لليهود الذين طردتهم اوربا لتأمن شرهم ، فاوجدت لهم وطنا في فلسطين مقابل ان تكون دولتهم هذه شرطي منطقة لحماية مصالح الغرب ، مع ذلك تشعر اسرائيل ان الولايات المتحدة وحلفاءها يمكن في ظل ظروف معينة ان يتخلوا عن حمايتها ، لذا يجب ان يكون للصهاينة مشروعهم الامني والاقتصادي والسياسي كي يستغنوا عن حماية الآخرين ، وتتلخص خطة اسرائيل في التعامل مع المنطقة بالخطوات الآتية : 1- تقسيم الدول المحيطة باسرائيل الى دويلات صغيرة ، خاصة وان اسرائيل تعاني من العقدة الديموغرافية الناتجة عن التضخم السكاني للدول المحيطة . 2- تطوير قدرات اسرائيل الاقتصادية والعسكرية والأمنية والاعلامية لتكون في الصدارة .3- الهيمنة على اقتصادات دول المنطقة وجعلها تابعة للاقتصاد الاسرائيلي .4- اثارة عوامل التقسيم الاثني في دول المنطقة البعيدة عن اسرائيل والواقعة جغرافيا ضمن منطقة الشرق الاوسط الجديد او الكبير .5- اتخاذ القدس عاصمة نهائية لاسرائيل برمزيتها الدينية والسياحية .وتتطلب الخطة الاسرائيلية التخلص من الشعب الفلسطيني بطرق عديدة اهمها البحث عن وطن بديل ، وكانت الوثائق الاسرائيلية تركز على اتخاذ الاردن وطنا بديلا لهم وكذلك اذابة الاجيال الفلسطينية الجديدة في المجتمع الاسرائيلي المهاجر الى ان تندثر الهوية الفلسطينية نهائيا . وقد قطعت اسرائيل شوطا كبيرا بهذا الاتجاه فحققت الأمور الآتية :1- كسبت جميع الحروب التي شنت ضدها بتواطؤ او استدراج او فشل الحكام العرب ، فجميع الحروب التي خاضها العرب مع اسرائيل في 1948 ، 1967، 1973 كانت حروبا خاسرة اوجدت لدى العرب والعالم الاسلامي عقدة هزيمة ، وساعدت اسرائيل على تثبيت وجودها ثم التوسع واحتلال القدس والجولان والضفة الغربية وسيناء .2- اقامت علاقات سرية مع رؤساء اغلب دول الشرق الاوسط وتدخلت في ايصال بعضهم الى السلطة .3- حققت نوعا من التطبيع مع العرب والعالم الاسلامي وجعلت وجودها الطارئ امرا واقعا في المنطقة .4- من أجل تشويه اي مشروع تحرري اسلامي ضدها شاركت في استحداث موجة مزيفة بديلة عن اي حالة نهضة اسلامية متوقعة تدعو الى القضاء على اسرائيل ، فساعدت الدوائر الماسونية على تقوية المذهب الوهابي ومنظمة القاعدة الارهابية . يعد تقسيم العراق مهمة محورية في النظرية الامنية الاسرائيلية وكذلك في اجندة الولايات المتحدة المستقبلية في الشرق الاوسط في عهد القطب الوحيد وغياب الاتحاد السوفيتي وتهيؤ المحور الصيني الاسيوي لاتخاذ وضع المنافس ، ويمكن الاشارة الى اهم الوثائق الاسرائيلية والامريكية لتقسيم العراق : 1- سنة 1957 نشر كتاب بعنوان (خنجر اسرائيل) لمؤلفه (ر. ك. كرانيجيا) ويقال ان الرئيس المصري الاسبق جمال عبد الناصر هو الذي يقف وراء فكرة الكتاب وقد زود المؤلف بوثائق مسربة من الجيش الاسرائيلي ، وتضمن الكتاب مخطط اسرائيل لتقسيم العراق على ان يبدأ التقسيم بتشكيل دولة كردية وفصلها ثم اقتطاع دويلة شيعية . 2- سنة 1982 في14 شباط نشرت مجلة (كيفونيم) الاسرائيلية خطط اسرائيل لتقسيم العراق وسوريا ، واعتبرت المجلة ان العراق اشد خطرا على اسرائيل من بقية الدول واكدت ان افضل طريقة لتمزيقه هو اثارت الصراع الدموي بين مكوناته . 3- في زيارته الى واشنطن سنة 1996حصل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على مشروع لتقسيم العراق يتبناه المحافظون الجدد اليهود في الولايات المتحدة ثم قدم المشروع مفصلا الى القيادة الاسرائيلية سنة 2000 . 4- كان المؤرخ الاسرائيلي (ببني موريس) يدعو دائما الى تقسيم العراق بعد غزوه ، ويزعم في احاديثه للاذاعات الاسرائيلية والامريكية ان العراق دولة مصطنعة صنعها البريطانيون وجمعوا فيها شعوبا لا تريد التعايش معا حسب زعمه ، قاصدا بذلك تقسيم المنطقة عقب الحرب العالمية الاولى . 5- كان المؤرخ الامريكي اليهودي الاصل (برنارد لويس) يكرر القول بضرورة تقسيم العراق ويعد استمرار وحدة العراق وبقاءه بلدا موحدا خطأ تأريخيا تتحمله بريطانيا ولابد من التصحيح بتجزئة البلد! . 6- نشر مركز ستراتفور للدراسات سنة 2002 ان الاستراتيجية الامريكية البعيدة المدى التي تعقب غزو الولايات المتحدة للعراق هي تقسيم البلد الى ثلاث مناطق منفصلة ، منطقة سنية في الوسط تنضم الى الاردن ومنطقة شيعية في الجنوب تنضم الى الكويت او ايران ، ومنطقة كردية ضمنها الموصل وكركوك . 7- قبل الغزو الامريكي للعراق سنة 2003 قالت صحيفة يديعوت احرنوت الاسرائيلية ان احد اهداف غزو العراق اقتطاع المحافظات السنية وضمها الى الاردن ! ثم كرر القول نفسه الخبير الاسرائيلي لشؤون الارهاب (إيهود سبرينزاك) في حديث للتلفزة الروسية يوم 24/11/2002 وقال انه مشروع تشكيل (المملكة الهاشمية المتحدة) ويقف وراءه (ديك تشيني) و(بول وولفوفيتز) حسب تعبيره . 8- وفي سنة 1973 قدم مهندس السياسة الامريكية (هنري كيسنجر) مشروعا تجدد الحديث عنه سنة 1983 يتضمن تقسيم جميع دول المنطقة العربية على اسس طائفية واثنية ، وعندما سن الكونغرس سنة 1998 قانون (تحرير العراق) ، طرح الموضوع بقوة مجددا وحظي بدعم اليمين المتطرف . 9- ميدانيا يعتقد بعض المراقبين ان الايحاءات الاولى لتقسيم العراق قد بدأت عندما قرر مجلس الأمن بضغط أمريكي تحديد مناطق حظر طيران تحت عنوان حماية الشيعة والكرد في الجنوب والشمال ، في التسعينيات من القرن الماضي مع حرص الاعلام الامريكي على ترسيخ عبارة (حماية الكرد والشيعة) .10- تضمن الدستور العراقي بدعم امريكي حق تقرير المصير للكرد ، وحق تشكيل الاقاليم غير الادارية بل العرقية والطائفية وغير ذلك من بذور التقسيم التي تشجع على شرذمة البلد . وقد طرحت الولايات المتحدة تلك الخيارات في اجتماعاتها المشتركة مع المعارضة العراقية في لندن سنة 2001 وفي واشنطن سنة 2002 وفي أربيل 2002 لكن ربما لم يفطن المعارضون الى تلك الاشارات الا بعد سقوط النظام . 11- تبنت المخابرات الامريكية cia قبل غزو العراق دراسة مقدمة من جامعة تكساس حول التوزيع العشائري في العراق ، ويقدم البحث رؤية لتقسيم العراق على اساس اثني والغاء وحدته الوطنية بشكل نهائي . 12- قبل غزو العراق دعا أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا والباحث في معهد (انترابرايز) اليهودي (جون ديو) في مقال في صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) الى التعجيل بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم ، في طرح ينسجم مع المشاريع السابقة . 13- قبل غزو العراق دعا أستاذ القانون الأمريكي والمستشار في البيت الابيض (آلان توبول) في موقع الكتروني خاص بالجيش الامريكي الى الاسراع بتقسيم العراق ، قائلا ان عدد دول العالم حاليا 193 دولة وليس هناك مشكلة اذا اصبحت 196 دولة اشارة الى 3 دويلات ناتجة من تقسيم العراق .14- يرى بعض المراقبين ان المحاصصة الطائفية والعرقية في تشكيل الدولة العراقية الجديدة بعد سنة 2003 هي تشجيع على التقسيم وتأسيس له ، وكان بامكان الولايات المتحدة وهي راعية العملية السياسية ان ترسخ مبدأ دولة المواطنة بدل المحاصصة 15- مشروع بايدن الذي قدمه الى الكونغرس الأميركي سنة 2007 وأقره مجلس الشيوخ كخطة غير ملزمة لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم وكان بايدن حينها نائبا عن ولاية ديلاوير الأميركية ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ، ورشح نفسه عن الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة سنة 2008 واصبح لاحقا نائبا للرئيس والمسؤول المباشر عن الملف العراقي .16- قبل ايام من الغزو الاسرائيلي للبنان سنة 1982 نشر المحلل العسكري الاسرائيلي (زئيف شيف) في صحيفة (هآريتس) الاسرائيلية مشروع تقسيم العراق كما طرحته وثيقة (كيفوئيم) السابقة .17- سنة 2003 نشر الخبير الاسرائيلي (ليزلي غيلب) مقالا له بعنوان (حل الدويلات الثلاث) في صحيفة (نيويورك تايمز) الامريكية يشرح فيه رؤيته لتقسيم العراق .18- كما القى غليب نفسه محاضرة في جامعة الاسكندرية المصرية سنة 2003 شرح فيها مشروع تقسيم العراق من وجهة نظر اسرائيلية بحضور اعضاء من الحزب الوطني الحاكم في مصر ومدير الجامعة ، وفيها اقترح تقسيم العراق الى 3 كيانات كردية شيعية وسنية.في آخر تطورات المشهد السياسي العراقي لوحظ ان هاجس التقسيم يهيمن على بعض الساسة الذين يجرون اتصالاتهم خلف الكواليس مع قوى دولية ما زالت مصرة على المشروع ، وقد اعترف بعضهم في احاديث خاصة انهم التقوا خلال الحج برعاية قطرية مع ساسة خليجيين وشخصيات سلفية واخوانية وضباط صداميين سابقين ، وجرى الحديث حول البدء بالتظاهرات في المناطق الغربية لازاحة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي اولا ثم جعل المنطقة الغربية حاضنة للارهابيين التكفيريين وبقايا القاعدة واعلان مايسمى بالجيش العراقي الحر ، على ان يمتد العمل العسكري من شمال بغداد الى اقصى شمال العراق ... الولايات المتحدة حاليا تتفرج على هذا المشهد ولابد من خطوط حمراء ، الا ان واشنطن تريد ان تشعر حكومة المالكي بالخطر الحقيقي يهددها لكي تستنجد بها فتفرض عليها شروطا للانقاذ اهمها قطع العلاقات مع ايران وسوريا ، او تحديدها بشروط امريكية لان الولايات المتحدة وجدت في العراق وسيطا ممتازا في محادثاتها مع ايران ، واذا نجحت الشراكة الامريكية مع المالكي مجددا فقد يحصل على مكافأة تشكيل حكومة اغلبية سياسية لاحقا ، الا ان هذا التطور لا يمنع من تقسيم العراق بل يعزز سلطة حزب الدعوة في الوسط الشيعي فحسب ، مشروع تقسيم العراق لن يتم عبر الصخب والعنف حسب ما يعتقد بعض المراقبين خاصة في مدى ولاية اوباما الراهنة لأن شعاره سحب القوات الامريكية من مناطق الصراع واستخدام القوة الناعمة ، وليس الحرب والعنف ، تقسيم العراق مشروع امريكي اسرائيلي المتضرر الأقوى منه الشيعة لانهم سيتحولون من دولة فدرالية كبيرة يضمنها لهم النظام الديمقراطي الى دويلة صغيرة تتنازعها الصراعات الداخلية والخارجية .
https://telegram.me/buratha