قد يصح قول البعض إن الدستور يسبب ارتباكات، لكن الارتباك الحقيقي سببه استمرارية ثقافة وممارسات النظم القديمة، التي مازالت تقاوم بوعي أو جهل متطلبات واستحقاقات المرحلة الجديدة. فالدستور الجديد في أي أمة هو مفتاح الانتقال من مرحلة لأخرى. فالثورات والتطورات الحاسمة تأتي بدساتير جديدة، فيقال دستور الثورة الفلانية، أو الجمهورية الأولى والثانية وهلم جرا. والدستور سيجدد القديم الصالح الذي لا يناقض مباني التغيير الجديد، فيصبح الدستور غربالاً لا يمر منه إلا ما يتوافق معه، وليحجز طريق كل ما يعارضه حقوقياً ودستورياً وسياسياً وقانونياً وإجرائياً واجتماعياً واقتصادياً وقيمياً.. إلخ.
ومع الأسف، مازالت استمرارية الممارسة والثقافة أقوى من مبادئ التغيير والدستور، ما يثير التناقضات والالتباسات. لذلك لا يحاكم الناس الدستور الذي لم يجد مساحاته المطلوبة والمتكاملة، رغم أن كل شيء يتم باسمه، بل هم يحاكمون ممارسات وتطبيقات كانت بائسة
وتزداد بؤساً.
النظم العراقية السابقة، الملكية والجمهورية، تصنف كنظم رئاسية.. أي إن السلطات التنفيذية والتشريعية الأساسية كانت بيد رئيس الدولة والحكومة. والنظم الرئاسية هي نظم معروفة وفعالة وتعمل بها الكثير من دول العالم، ولكي لا تتحول إلى نظم استبدادية، حيث تستغل السلطة التنفيذية قدراتها للتقوي والبقاء، كما في تجارب كثيرة ومنها العراق، فإنها تتطلب مؤسسات وأنظمة وتقاليد دستورية وديمقراطية عريقة ومتقدمة.
وعندما تم اختيار النظام البرلماني في الدستور الجديد، لم يكن ذلك اختياراً اعتباطياً، بل منعاً من عودة الدكتاتورية، وأفضل الخيارات لبناء الديمقراطية، وبما يناسب الطبيعة التعددية للبلاد. ففي النظام البرلماني تستمد السلطة التنفيذية شرعيتها من السلطة التشريعية التي تخضع لمساءلتها ومراقبتها. أما في النظم الرئاسية، فرغم أن تركز سلطات تشريعية وتنفيذية واسعة بيدها يساعد على سرعة التشريعات والقرارات، لكن انتخابها بمعزل عن السلطة التشريعية غالباً ما يسبب تصادمات وتعطيلاً كاملاً لعمل النظام. لهذا يلاحظ ميلاً قوياً وخصوصاً في الدول التعددية - في العقود الأخيرة - نحو النظم البرلمانية. فالأخيرة - حسب الدستوريين- أكثر مقاومة للتوجهات الفردية والاستبدادية.. وتقول الدراسات إنه منذ الحرب العالمية الثانية، فإن ثلثي دول العالم الثالث، التي أقامت «أنظمة برلمانية»، نجحت في الانتقال إلى الديمقراطية.. وفي المقابل لم ينجح أي نظام رئاسي بالعالم الثالث في الانتقال إلى الديمقراطية من دون انقلابات وحروب.
1/5/13307
https://telegram.me/buratha