قبل عامين تلقيت استدعاءً من المدعي العام الألماني وهو ما يعادل قاضي التحقيق في العراق لان النظام القضائي مختلف هنا وذلك بتهمة الترويج للنازية، وكانت مفاجأة غير متوقعة وشديدة الوطأة، قرأت الرسالة مرات ومرات وأنا غير مصدق، كيف حدث أن توجه لي تهمة مثل هذه، وما علاقتي بالنازية وأنا عراقي عربي مسلم، ولعلي لو عاصرت النازية لكنت احد ضحاياها، قلت في نفسي، لا بد من خطأ ما وعليّ ان أتصل صباح اليوم التالي بدائرة الشرطة للاستفسار عن سبب هذا الاستدعاء الغريب، وهو ما حدث فعلا، وجاء التأكيد صاعقا، نعم أنا متهم بالترويج للنازية وعليّ المثول امام المحكمة وتوكيل محام للدفاع عن نفسي!.
لا أخفيكم التهمة خطيرة ومخيفة هنا في المانيا وعقوبتها مُشددة، ففي حالة سابقة في نفس المحكمة تم الحكم على رجل ألماني بخمسة أعوام سجن وغرامة عشرة ألاف يورو وفي أخرى مع مراعاة ظروف التخفيف تم الحكم على شاب ألماني بعام ونصف مع غرامة ثلاثة ألاف يورو، هذا ما قاله المحامي السيد بيشر لي وهو يحاول ان يُهدئ من خواطري، وأضاف عليّ ان أطمأن ففي ألمانيا لا يوجد إعدام كما هو الحال في العراق! مؤكدا انه سوف يبذل جهده من أجل الحصول على حكم مخفف لي، يا الله ماذا يقول هذا المحامي المجنون، تطيرتُ من هذا المحامي وقررت استبداله بعد أن دفعت كامل أتعابه له والبالغة حولي ألف يورو نقدا وعدا.
أخيرا أخترت أفضل محام في المدينة السيد بولانسكي، في السبعين من عمره، بدين ملتحٍ أشعث لكنه خبير وماكر، قال أنه سوف يلتقي بي بعد ان يطلب الملف ويطلع عليه، وهذا ما حدث، نظر إلي طويلا وقال موقفك صعب للغاية ولا أدري كيف أدافع عنك، قلت يا إلهي ما لذي يحدث، ماذا فعلت أنا، قال أنك بعت جهاز أيبود من خلال السوق الألكترونية المشهورة آيبي والمشتري أكتشف انك قد سجلت في الجهاز أغنية تمجد النازية وقام بالإبلاغ عنك وتسليم الجهاز للشرطة كدليل ادانة ضدك.
هذا صحيح، فقد سبق أن بعث جهاز آيبود 80 جيجا في السوق الألكترونية وهو أمر تقوم به ملايين الناس يوميا عندما يبيعون ما لا يحتاجون من حاجاتهم وأجهزتهم القديمة، ولكن ماذا عن الأغنية التي تمجد النازية، قلت لا أعلم عنها شيئا، قلت يا سيد بولانسكي كيف لي وانا عربي ومسلم ان أقوم بالترويج او بتمجيد النازية وهي التي كانت تعدنا ـ نحن العرب ـ في مرتبة أرقى من القردة بقليل، هذا مستحيل وغير منطقي، يمكن أن نصدق ان شابا ألمانياً يقوم بتمجيد النازية، لكن ليس رجلا بالغا مثلي ومن أصول عربية ومسلمة وأنا شخصية عامة ومعروفة من قبل الادارات والأحزاب والمنظمات في المدينة وعضو في منظمة لمكافحة الكراهية ضد الأجانب وعرضت عليه وثائقا وصورا تؤكد كلامي، قال السيد بولانسكي: هذا لا قيمة له قانونا، المهم أنت الآن في نظر القانون متهما بتمجيد النازية وهناك دليل مادي ضدك وعلينا تفنيد هذا الدليل.
لا أريد الإطالة، لكن بعد عام كامل حصلت على إبطال التهمة ضدي نهائيا لعدم كفاية الأدلة مع ملاحظة عدم تكرار ذلك ودفع غرامة للمحكمة، خسرت في هذه القضية حوالي ألفين وخمسمئة يورو مع قلق وأرق على مدى عام كامل، وأكتشفت ان المانيا والدول الأوربية ما زالت تتشدد في محاسبة المروجين والداعين الى الحزب القومي الأشتركي الألماني المعروف بالنازي.
أسوق هذه التجربة الشخصية ردا على المطالبين بإلغاء قانون المسائلة والعدالة ولم يمض بعد عشرة أعوام على سقوط النظام البعثي، مع العلم أن قوانين مكافحة النازية ما زالت الأكثر تشددا في العالم رغم مضي أكثر من ستين عاما على سقوط النظام النازي، وقانون المساءلة والعدالة وما سبقه قانون اجتثاث البعث هما الأكثر تساهلا في التعامل مع حزب البعث الذي لا يختلف كثيرا عن الحزب النازي في جرائمه، فكلا الحزبين دخلا حروبا عبثية مدمرة وحطما مقدرات البلدين ألمانيا والعراق وكبلاهما بالعقوبات والديون، والحزب النازي عُرف بمحارقه الجماعية، بينما عُرف حزب البعث بمقابره الجماعية، فلا فرق كثير بين الحزبين.
2/5/13308
https://telegram.me/buratha