تثبت التطوارات الأخيرة المتسارعة في سوريا أن المعركة أكبر من أن تنحصر في تغيير النظام الحاكم في سوريا... كما أن فهم ما يجري في سورية بشكل دقيق وغير منحاز له أهمية حاسمة في عكس مجريات التصعيد العسكري ومنع نشوب حرب إقليمية واسعة...ولا يمكن فهم ما يجري في سوريا دون النظر بالأتجاهات الأربعة..شرقا الى لبنان حيث ثمة صداع دائم يشكله حزب الله هناك لإسرائيل ومن هم منضوين تحت خيمتها البيضاء المحصورة بين خطين أزرقين وما يحملان من معنى..جنوبا حيث ألأردن هذا البلد الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، أللهم إلا رائحة إرتباط ألأسرة الحاكمة بالثدي البريطاني الذي رضعت حليبه الأزرق، وتوجب عليها أن تخلص لهذا الثدي الى الأبد..شمالا نحو تركيا الأردوغانية بهوياتها المتعددة، فمرة هي راغبة بأن تصنف ضمن التصنيف ألأوربي، ومرات تمد عيونها نحو الجنوب صوب "مستعمرات" سلفتها دولة السلاطين العثمانيين في حلم إمبراطوري متجدد..وشرقا نحو العراق المحمل بالمشكلات والهموم وهو الخارج للتو من نير فترة قحط سياسي، مثلها نظام صدام الذي بغيابه خسرت الراديكالية العربية سيف من سيوف عدوانها وجبروت زعمائها الفارغين إلا من شهوة الحكم.
وتشكل معركة القصير في هذه التطورات مفصلا مهما، فالنجاحات التي حققتها القوات السورية هناك ، ومعها حلفائها البواسل مقاتلي حزب الله، جعلت الغرب عموما وأمريكا خصوصا تعيد حساباتها على وجه السرعة..وما إندفاعتها نحو مؤتمر جنيف ـ2 بعد طول ممانعة ،إلا مصداق للتحول الجذري في مواقف الأدارة الأمريكية، ودليل على أن هذه الأدارة لا يشينها تغيير المواقف، مثلما لا يهمها مصير أصدقائها وحلفائها، ولذلك سحبت البساط من تحت أقدام قطر، ومنعتها من التدخل بالشأن السوري تماما، وسلمته الى أياد السعوديين الأكثر توافقا مع المصالح الأمريكية، ناهيك عن أنهم ورقة لم تحترق إقليميا بالتمام بعد..
إن صقور الإدارة الأمريكية كانوا يروجون الى أن الحرب على طهران تمر عبر دمشق. وهكذا فإن خطة أمريكا والناتو لإعلان الحرب على إيران، كانت تقتضي حكما وكخطوة أولى حملة زعزعة استقرار تليها عملية تغيير النظام تستهدف سورية. في أثناء ذلك، انتهى المخططون الأمريكيين والاسرائيليون، ومخططي الناتو من وضع الخطوط العريضة للحملة العسكرية لدعم إئتلاف الدوحة، تلعب فيها تركيا، وهي ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو، دورا مركزيا.
وقد وجدت الإدارة الأمريكية أنه في حال تم شن حملة عسكرية ضد سورية، فإن المنطقة بأكملها، الشرق الأوسط ومنطقة شرق أسيا الوسطى اللتان تمتدان من شمال أفريقيا وشرق المتوسط إلى الحدود الباكستانية – الأفغانية مع الصين، ستغرق في حرب واسعة. الحرب على سورية قد تتطور لتصبح حملة عسكرية تشنها أمريكا والناتو على إيران، وستشارك فيها تركيا وإسرائيل بشكل مباشر. وهذا ما سيصطدم بعدة عقبات، أولها أن إيران ليست لقمة سهلة، وأن لحمها غير سائغ سيما وأنه لحم مشبع باليورانيوم المخصب بنسبة بدا تتجاوز الـ25% وهو ما يقربها من إنتاج القنبلة النووية إن لم تكن قد أنتجتها فعلا، ناهيك أنها بلد بإمكانات هائلة وقيادة قادرة فاعلة تمسك بزمام الأمور بحنكة يدعمها شعب يؤمن بها، يجاوره شعب العراق الذي هو الآخر على الرغم من مشكلاته وآلامه وجراحه إلا أنه ظهير قوي للشعب الإيراني الشقيق..
معركة القصير أثبتت أن الرئيس الأسد وحلفاءه استوعبوا الصدمة ألأولى، وأنتقلوا الى مرحلة من الهجوم الواسع المنظم والذي لا قبل لأعداهم على الصمود أمامه، سيما وأن الرئيس السوري نجح في تثبيت موقعه بفعل حلفائه في محور طهران دمشق وعلى الأخص إيران وحزب الله، دعم هؤلاء الشركاء للأسد لم يقتصر على تقديم السلاح والخبرة بل ووسائل أخرى، لافتةً إلى أن هذا المحور أثبت قدرته حتى الآن على احتواء مصادر التهديد حتى لو كانت داخلية ومدعومة من الخارج، فلولا هذا الدعم لما استطاع نظام الرئيس السوري أن يصمد أمام عدة جبهات فتحت ضده من تركيا ومن شمال لبنان ومن الأردن ومن العراق، بالإضافة إلى إمكانيات هائلة لوجيستية ومالية تم ضخها من قطر والسعودية ودول أخرى بما فيها دول غربية
كل القرائن تشير الى أن العد العكسي للإرهابيين في سوريا قد بدا، وأن رحلتهم نحو مثابات أخرى قد شرعوا بها. غير أنهم سيواجهون مأزقا لم يكن في حسابهم حينما قدموا الى سوريا...
فهم حينما قدموا كانوا لا يعلمون أنهم قد قطعوا تذاكر بإتجاه واحد فقط، الفوز بالغنيمة في سوريا، وهذا ما بات ليس في مقدورهم، أو النهاية، وهي شأن يريده حتى الذين أرسلوهم أو سهلوا دخولهم الى سوريا..!..فمن بين البدائل الإستراتيجية للمخطط الأمريكي الصهيوني ، هو دفع"الجهاديين" صوب منطقة قتل في سوريا لتأكلهم نيران المعركة هناك ويستفيد بواسطتهم الأمريكان والصهاينة فائدتين: تحطيم سوريا وإضعافها وإضعاف حزب الله، والتخلص من "الجهاديين" في تلك المحرقة..
https://telegram.me/buratha