علي بابان وزير التخطيط السابق و القيادي بائتلاف دولة القانون
ربما لا تسعفنا التعاريف الأكاديمية في توضيح مفهوم (المصالح العليا للدولة) بشكل دقيق وجامع خصوصا أننا نلاحظ تداخل هذا المفهوم مع مصطلح (المصالح الاستراتيجية للدولة) حيث نشاهد (اندماج المصطلحين ) وتداخلهما في أحيان كثيرة واستخدام أحدهما للتعبير عن الآخر، ولأجل ذلك سنجأ إلى (الفطرة السياسية) وإلى (الفهم المبسط العادي) للوقوف على حدود المصطلح ومعانيه وما يتبادر إلى الذهن عند استخدامه أو إطلاقه، ولعل المعنى الحقيقي والمضمون الدقيق لهذا المصطلح يتمثل في (الاعتبارات الأساسية والكبرى) والتي لا خلاف عليها ولا جدال حولها في كونها (تمثل أهمية قصوى وحاسمة للمجتع والدولة بحيث يتوقف عليها استقرارها وازدهارها وفي بعض الأحيان يتوقف عليها وجودها) ، مثل هذه الاعتبارات لا يصح (وطنيا) المساومة بشأنها، واعتبارها مادة للتنافس السياسي بين القوى المحلية ، أنها الخطوط الحمراءالتي يجب ألا تقترب منها القوى السياسية والقدر المجمع ليه الذي لا ينبغي أن يصبح في دائرة التهديد بسبب الخلافات والتنافسات الداخلية ولا بأي صورة من الصور، قد يصح أن تختلف القوى والشخصيات السياسية والاجتماعية حول سبل الوصول لتحقيق تلك المصالح والمدخل الأنسب لذلك لكن لا يصح أن يكون الاختلاف حول الأصل أو أن يكون هامش الاختلاف أو نتائجه ضارة بتلك المصالح أو معرضة بالخطر لها.
إن تحديد وتعريف (المصالح الوطنية العليا) تعد أمرا بالغ الاهمية لأي دولة وهي مسألة حيوية وحاسمة لأي كيان اجتماعي ناضج من باب إشعار المجتمع ومؤسساته السياسية ونخبه المتعددة بواجبها في الدفاع عن تلك المصالح ومن خلال تعبئة الراي العام وحشده باتجاه حمايتها والذود عنها، إنها (البوصلة) التي يستهدي بها القرار الوطني و(القاعدة والأساس) لأي تحرك سياسي أو جهد حكومي، كما إنا (المساحة المشتركة) التي يقف عندها الجميع وينتهي عندها الجميع فهي بمعنى آخر (موطن الإجماع) و (مقدسات السياسة) و (ألف باب) العمل الوطني، تتحرك بموجبها (ديبلوماسية الدولة) ولا يمكن تخيل أي جهد ديبلوماسي من غير الاهتداء (بالمصالح الوطنية العليا).
إن تركيز الأنظار على المصالح الوطنية العليا والتثقيف الدائم بها والتذكير بأهميتها وحيويتها وجعلها محور الحياة السياسية والاهتمام الاجتماعي العام يساهم بشكل كبير برفع منسوب الوعي ويعظم الشعور الوطني ويقرب بين الكتل السياسية ويزيد من اللحمة الاجتماعية.
يجب النظر إلى المصالح الوطنية العليا من منظار الوطن الواحد والدولة الواحدة لا من خلال (مناظير) متعددة تفرز جداول أعمال مختلفة ومشروعات استراتيجية متضاربة بحيث ننتهي إلى تحديد متباين لتلك المصالح ما بين شريحة اجتماعية وأخرى، واتباع خط أيديولوجي أو ديني وآخر، إن تعدد (المناظير) داخل الدولة الواحدة واضطرابها واختلاف زوايا النظر فيها هو من أخطر ما يمكن أن يصيب أي مجتمع من المجتمعات وبدل أن تتحرك الدولة والمجتمع صوب الأهداف المشتركة نجد اضطرابا في السير وتعددا في السبل وتناقضا وصراعات تذهب بالجهد الوطني وتبدده في مسارب مختلفة.
يتوقف (ارتفاع سقف) المصالح الوطنية على مستوى طموح الدولة فالدول التي تجاوزت مرحلة تثبيت كيانها السياسي وحيازة سلامها وانسجامها الاجتماعي تفكر فيما هو أعلى وترفع السقف باستمرار مع كل نجاح تحرزه ونظرة واحدة إلى (جداول أعمال) تلك الدول ينبىء عن ذلك، فيما دول أخرى تجاهد للحصول على الأساسيات من حفظ كيانها واستقرارها وتوفير الحد الأدنى من متطبات مواطنيها حتى يصح أن نقول عن تلك الدول أنها لا تطلب سوى (الستر..)، وسقف طموحها المتواضع يدل على صعوبة أوضاعها.
لو جئنا إلى الإسلام والفكر السياسي الإسلامي لوجدنا أن واجب الدولة محدد وواضح وهو تطبيق شرع الله وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم الخارجي هذا ما يستنتجه أي دارس للنصوص الشرعية ولوقائع التاريخ الإسلامي، يعرف الأمام الشاطبي المصلحة بأنها (تعني الحفاظ على المقاصد الأساسية للشريعة أي بمعنى الحفاظ على الدين وصيانة العرض وحماية النفس والعقل والمال) وبالنظر إلى هذا التعريف نكتشف بسهولة ارتباطه الوثيق بالمفهوم العصري والمتداول لمصطلح (مصالح الأمة العليا) فالحفاظ على الدين يعني الحفاظ على عقيدة الأمة وهويتها وثقافتها وحماية ذلك كله وهو مبدأ راسخ في الدول المعاصرة ولكن تحت مسميات وتوصيفات مختلفة غالبا ما تندرج تحت مفهوم (الثقافة الوطنية) أكثر من اندراجها تحت مصطلح (الدين والعقيدة)، أما صيانة العرض وحماية النفس والعقل فهي تعني ببساطة حماية سيادة الدول واستقلالها والدفاع عن مواطنيها وهي أصول راسخة ومتعارف عليها عند تحديد مصالح الدول العليا لا بل إنها تعتبر (ألف باء) هذه المصالح، وبالنسبة لحفظ المال فهو ليس سوى (رفاه المواطن وثراء الدولة) الذي تتحدث عنه المفاهيم المعاصرة، وهناك تقسيمات حديثة تعبر عن التقسيم الذي اعتمده الشاطبي ولا تتقاطع معه فحفظ الدين قد يعرف بالمصلحة العقائدية وهي (مجموعة القيم والأفكار التي تؤمن بها غالبية السكان في الدولة) فيما حفظ النفس والعرض والعقل مندرج في المصلحة الدفاعية والتي تتعلق بحماية الدولة من أي تهديد خارجي وعادة ما يستخدم مصطلح الأمن القومي للدلالة عليها، وبالنسبة لحفظ المال نجد أن المصلحة الاقتصادية هي بند ثابت لا يغيب عن أي قائمة تشتمل على المصالح العليا للدولة وهي تعني غنى الدولة وزيادة ثرائها ووفرة مواردها.
للتاريخ والجغرافية دور هام في تحديد المصالح العليا للدول وتبيان ملامحها وهما المحضن الطبيعي الذي تتشكل فيه تلك المصالح، فالخزين التاريخي هو (ذاكرة الأمة) وهو الذي يضم أهم وأثمن الدروس التي خرجت بها الأمم وحصاد تجربتها الطويلة التي لا بد أن توظف لتحديد مكامن الخطر ومواطن الفرص وهذا كله ينعكس في وضع جدول أعمال الأمة التي تضع مصالحها العليا في أعلى ذلك الجدول، وكذلك الأمر بالنسبة للجغرافية فحقائقها تحدد وضع الدولة وتضعها ضمن نظام إقليمي محدد وتفرض عليها جيرانا صالحين أو طالحين، مسالمين أو طامعين، وهي التي ترسم لها مداخلها ومخارجها ومنافذها ونقاط ضعفها أو قوتها في إقليمها وموقعها.
حصيلة التاريخ تقول لنا في العراق أن وحدة المجتمع العراقي وتماسك نسيجه الوطني كان على الدوام (كعب أخيل) كل الكيانات التي قامت على أرض العراق وفي مراحل تاريخه المختلفة ومن هنا كانت (المصحلة الوطنية العليا الأجدر بالاعتبار والأهمية) هي وحدة المجتمع والكيان العراقي، والتجربة تثبت لنا أن الحضارة العراقية لم تزهر أو تثمر إلا في ظل وجود التوحد والانسجام الاجتماعي كما أن الكيانات التي قامت على هذه الرقعة الجغرافية لم تصب بالضمور والتدهور إلا مع وجود التفكك والتناحر داخلها. من هنا فإن وحدة الدولة والتماسك المجتمعي ورسوخ النظام السياسي واستقراره يشكل (أصل) المصالح الوطنية العليا في العراق وفي الواقع فإن هذا شأن عام تشترك به كل الدول والكيانات ولا يقتصر على بلادنا ولكنه عندنا يكتسب أهمية مضاعفة بسبب وجود (الدرس التاريخي) الذي أشرنا إليه سالفا.
يشير دارسي التاريخ والحضارة العراقية إلى أن هذا البلد كان على الدوام ساحة لتصارع القوى والحضارات الأخرى على ارضه ويلاحظ العالم الجغرافي الموسوعي الدكتور جمال حمدان في كتابه القيم (مصر.. دراسة في عبقرية المكان) أن موقع العراق القديم استجلب في فترات زمنية عديدة الأعداء والمتنافسين بصورة استثنائية لا مثيل لها حتى غدا هذا البلد بؤرة لحروب وصراعات متعددة وذلك بسبب الموقع المتوسط للعراق وكونه معبرا في تلك العصور، وبالطبع فإن خارطة القوى المعاصرة قد تغيرت كثيرا وصار للصراعات منطقها المختلف لكن لا زال للعراق موقعه الجغرافي المميز الذي يؤهله لأن تتقاطع عنده خطوط الصراع الاقتصادي والأيديولوجي خصوصا بعد ما تبين أنه يضم بحرا من مصادر الطاقة في أرضه، إن هذا يستلزم ممن يتصدى لمهمة حماية استقلال العراق ومن يسعى لعدم جعله ساحة للتصارع الدولي والإقليمي أن يمارس التوازن في علاقاته وإن يحسن توظيف عناصر القوة الاقتصادية كأدوات لتعزيز وترسيخ الكيان العراقي بدلا من أن تكون أداة للتنافس والصراع على أرضه.
وإذا جئنا إلى المكان ودلالاته وللجغرافيا واعتباراتها نجد أن هناك عناصر ضعف عدة في الإقليم العراقي لعل أخطرها على الإطلاق كون المياه العراقية والتي (ارتبط وجود البلد وازدهاره وبروز حضارته بها) تنبع في معظمها من خارج إقليمه والعراق المعاصر اليوم بات يواجه التهديد الأعظم على وجوده واستمرار الحياة على أرضه بسبب هذا العامل وبفعل مشاريع الري العملاقة في دول الجوار، ومن هنا كان ضمان تدفق المياه إلى العراق بالمعدلات المعتادة وحماية (حق الاستخدام التاريخي لدجلة والفرات) على رأس المصالح الوطنية العليا للعراق والتي ينبغي على ديبلوماسيته وجهوده الرسمية والشعبية العمل على حمايتها والذود عنها.
نقطة الضعف الأخرى في جغرافية العراق والتي ينبغي أن تكون حاضرة في أذهاننا تتمثل بضيق المنفذ العراقي على البحر وقطع العراق عن الخليج وساحله العريض، مثل هذا الاعتبار كان ماثلا في ذهن الساسة العراقيين في ظل العهود المختلفة، ويمكن القول أن الصراع على الكويت وهو ما حدث في ثلاثة عهود سياسية مختلفة (الحكم الملكي وحكم عبدالكريم قاسم وفترة الحكم البعثي) كان مرتبطا بهذا البعد الجغرافي إلى حد كبير وينبع من الإحساس بنقطة الضعف هذه، أن ما يصطلح عليه بـ ( الدول الداخلية) وهي الدول التي لا تملك منافذ بحرية أو سواحل عريضة يجعل هذه الدول تصنف ضمن الدول الضعيفة وتعد هذه الخصيصة فيها أحد عناصر ضعفها الاستراتيجية ، إن العراق لا يعد (دولة داخلية) بالمعنى الحرفي لهذا المصطلح ولكن شريطه الساحلي ضيق وهذا يعين على محاصرته والتضييق على صادراته النفطية ويمنع انسياب تجارته البحرية وهو أمر هام لاقتصاد وازدهار أية دولة، لقد برزت هذه الحقيقة بشكل واضح عند فرض الحصار الدولي على العراق بعد عام 1990 وبعد غزو النظام السابق لدولة الكويت فقد أدى التزام الدول المجاورة بترتيبات الحصار الدولي وعدم امتلاك العراق لساحل عريض يتمكن من خلاله التفلت من هذا الحصار إلى وقف صادرات النفط العراقي وإعاقة انسيابية حركة التجارة ووصول البضائع منه وإليه، لقد أدى ذلك الحصار غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية إلى إلحاق أفدح الأضرار بالعراق وبقيت آثاره الاجتماعية والاقتصادية والصحية حتى يومنا هذا.
نقطة الضعف الثالثة في جغرافية العراق هي وقوعه إلى جوار دول قوية بعضها ذات حضارة عريقة وتاريخ حربي مشهود وقد شكلت هذه الدول مصدر خطر عليه وحاولت التمدد بنفوذها وحكمها داخل إقليمه أو تصارعت فيما بينها على كسب النفوذ والهيمنة فيه، حدث ذلك قديما وحديثا خصوصا عندما يصاب العراق بالضعف بسبب صراعاته الداخلية وعندما تحاول إحدى شرائح المجتمع العراقي التحالف مع بعض هذه الدول واستعدائها على الشرائح الاخرى أو عندما تسعى مملكة من ممالكه القديمة في إحدى مدنه لتقهر مدينة أخرى بالاستعانة بحلفاء خارجيين.
هل يتشكل الواقع السياسي الراهن حول (المصالح الوطنية العليا...) فعلا..؟؟
وهل يلتف ساسة العراق ونخبه حول جدول أعمال محدد يستوعب تلك المصالح حقا؟ وإلى أي مدى تتحرك (ديبلوماسية الدولة العراقية) وفق هذه البوصلة...؟؟
أسئلة ربما كانت إجاباتها الحقيقية تثير الأسى والكآبة في النفوس، لكن الحق والصواب يبقى حقا والتذكير به يبقى واجبا في كل الظروف والأحوال.
علي بابان وزير التخطيط السابق و القيادي بائتلاف دولة القانون
https://telegram.me/buratha