حافظ آل بشارة
لقاء رؤساء العشائر في مكتب السيد عمار الحكيم وتوقيعهم ميثاق شرف وطني ، حدث يشحذ الذاكرة ويعود بالناس الى احداث عراقية كان فيها النظام العشائري خندقا خلفيا لحماية الشعب وحفظ الحياة والعرض والمال عندما تنهار منظومة الدولة الرسمية ، وهناك تسلسل تأريخي واضح ، فمنذ سقوط الدولة العثمانية اصبحت الدولة الرسمية في العراق (دولة الانتداب البريطاني) كيانا هشا وضعيفا ، وكان هناك فراغ أمني وسياسي في العقود الثلاثة الاولى من القرن الماضي ، وقد شغلت سلطة العشائر هذا الفراغ وهي لا تعبأ كثيرا بالانتماء الطائفي وحتى القومي وعرفت الهيئات العشائرية العراقية كرموز توحيد متحررة من العقد وتضم في خيمتها العشائر العربية والكردية والتركمانية ووجهاء الاديان الاخرى... فبقيت مع وجود الاحتلال البريطاني عنصر توازن مهم في ادارة البلد ، وذات يوم قام الحاكم البريطاني من كرسيه ومشى مسافة ليستقبل رئيس عشيرة دخل عليه وكان شيخا رث الملابس وعندما سألوه عن سبب احترامه الزائد لهذا القادم قال : هذا يمتلك ثلاثة آلاف بندقية كلها يمكن ان تقاتلنا باشارة منه ، ولعل ثورة العشرين وما تركته من انطباع قاس في اذهان البريطانيين حول العشائر العراقية جعلتهم يدرجونها ضمن مفاتيح الحل في مستقبل العراق ، وفي وثائقهم يؤكدون ان العشائر هي مادة التعبئة الشعبية للمرجعية الدينية التي قادت ثورة العشرين وجميع المواجهات المسلحة مع الاحتلال البريطاني ، كان أغلب شيوخ العشائر مبدأيين أي يشعرون ان الوجاهة تصنع المسؤولية ، لذا شهد العهد الملكي منذ سنة 1921 الى 1958 حالة توازن أخذ يتطور الى تنافس احيانا بين نفوذ العشيرة ونفوذ الساسة والاحزاب ومعهم كبار العسكر ، وهذا هو السبب المباشر الذي جعل بعض رؤساء الوزراء المتعاقبين يقمعون العشائر ، فيعتقلون شيوخهم وينفون بعضهم الى مناطق نائية وقد يقصفون قراهم بالمدفعية كما فعل بكر صدقي ورشيد عالي ، لكنهم كانوا يردون لهم الصاع صاعين ، الحكم الملكي في العراق حسم المعادلة مع العشائر باستخدام الضد النوعي فصنع عددا من الاقطاعيين فهيمنوا على الاراضي وحولوا العشائر الى قوة عاملة ينهكها الفقر وتتراجع عن دورها المؤثر في القضايا الوطنية ، الأمر الذي جعل ثورة تموز سنة 1958 التي انهت الحكم الملكي تجعل القضاء على الاقطاع احد اهم شعاراتها ، لذا اصبح قائد تلك الثورة عبد الكريم قاسم يمتلك تاييدا اسطوريا في اوساط المجتمع الريفي والكادحين ، ولكن النظام العشائري لم يتمكن من استعادة نفوذه ، اما نظام صدام فقد اخضع مشيخة العشيرة للتنظيم الحزبي واستخدم الضد النوعي مع القمع والعسكرة ، وبعد التغيير في العراق سنة 2003 اصبحت العشائر من ابرز قوى المجتمع المدني ، فاتخذت موقعا تحتله لأول مرة منذ انهيار الدولة العثمانية ، لاسباب مماثلة فالعملية السياسية لم تثمر دولة قوية ، لذا عاد المواطن الى خيمة عشيرته بحثا عن الحماية ، وعادت تلك الاسماء اللامعة بعد ثمانين عاما تتردد على السنة الاحفاد : الخيون ، آل سكر ، آل ابو طبيخ ، الياور ، السليمان ، العطية ، الهذال ، الضاري ، الشعلان ، وغيرهم كثير ، اسماء لرؤساء عشائر اثروا في تاريخ العراق المعاصر ، اخذ احفادهم يتخذون منهم القابا مشرفة لتزيين اسماءهم في اشارة الى ازدهار سلطة العشيرة مرة ثانية في ظل الضعف والفوضى والارهاب بعد سقوط نظام صدام ، فاتضح ان العشيرة العراقية ما زالت خندقا خلفيا تتراجع نحوه الحياة الاجتماعية بحثا عن الحماية ومواجهة الاخطار .
https://telegram.me/buratha