حسن الهاشمي
ينقل إن موسى بن عمران عليهما السلام كان به داء أعيا الأطباء، فبينما هو ذات يوم يمشي على شاطئ النيل، وإذا بحشيشة تنادي يا بن عمران خذني! فأنا دواؤك من هذا الداء، فقال موسى بن عمران إنما الدواء من الله تعالى ثم تركها فشفاه الله تعالى، فلما كان بعد عام آخر عاوده ذلك المرض بعينه، فشكا إلى ربه، فأوحى إليه أن يا موسى امض إلى الطبيب واعمل بما يقول، فمضى موسى إلى طبيب كان في بني اسرائيل، فأمره الطبيب أن يتناول ثمرة من شجرة فتناولها فشفاه الله تعالى، فلما كان العام الثالث عاوده ذلك المرض واستعمل تلك الحشيشة فلم يبرأ، فقال أي رب ما هذا؟! فأوحى الله تعالى إليه أن يا موسى: شفيتك بغير حشيشة لتعلم قدرتي، وأحلتك على الطبيب لتعلم تدبير مملكتي، ومنعتك الشفاء بها لكي يتحقق قهري، أنا الشافي أشفي من أشاء بما أشاء! وبعد سرد هذه القصة نستنتج إن القدرة والتدبير والقهر بيد الله تبارك وتعالى، والإرشاد إلى عمل الخير وعدم الإرشاد إليه وهو ما يسمى بالتوفيق الإلهي والخذلان الإلهي بيد الله كذلك، والسؤال الذي يطرح هنا هل التوفيق والخذلان ملكة عند الناس أم استحقاق؟! هذا ما سنبينه من خلال هذا العرض: بادئ ذي بدء التوفيق هو أن يُعينك الله تعالى على ما تقصد، ويعينك على ما ترغب، ويعينك على الوصول إلى ما فيه صلاحك، وفي المقابل الخذلان، وهو عدم النُّصرة، وعدم الإعانة، وذلك حين يُترك الإنسان وشأنه، فإنْ تخذلَ أخاك، فهذا لا يعني أن تَضرَّه، وإنما أن تتركه وشأنه في ظرفٍ هو بحاجةٍ إليك، فهذا هو الخذلان.ثمَّة من يخذله الله، وثمَّة من يوفِّقه الله، ورد في الحديث: (من أغتيب عنده مؤمنٌ، وكان قادراً على الانتصار له، فلم يدفع عنه، خذله الله في الدنيا والآخرة)، بمعنى أنه تركه وشأنه، وحين يتركه الله تعالى وشأنه يهلك.ورد في الحديث الشريف أن رسول الله -صلى الله عليه وآله- كان يأخذ زاوية من حجرته، وبعد أن يصلي ركعات، ويتلوا القرآن، ويناجي ربَّه، يكرِّر هذا الذكر: (إلهي لا تكِلني إلى نفسي طرفة عين أبدا)، يعني لا تكلني إلى نفسي مقدار حركة الجفن، وكان (ص) -كما تقول إحدى زوجاته- يكرر هذا الذكر وإنّ دموعه لتسيل على كريمته، ثمّ إنها لتتساقط في حجره، فتقول: أشفقت عليه، قلتُ: يا رسول الله! وأنت رسول الله تخشى أن يكلك الله إلى نفسك؟! قال لها: يا أمة الله إنَّ بَلعمَ ابن باعورا أعطاه الله شيئا من الإسم الأعظم، ثم أوكله إلى نفسه طرفة عين، فهلك) هذا هو معنى الخذلان.كثيرٌ من الناس يتوهَّم أنه مهديٌّ برشده وعقله، أو أنَّه إنَّما حصل على هذا المال بجهده وعنائه وكدِّه وكدحه، وأنَّه إنَّما وصل إلى هذا الموقع لأنه قد بذل ما حقق الوصول إليه، أو إنه إنما أصبح عابداً كثير الصلاة، لأنه أهلٌ لذلك! ويغفل كلُّ هؤلاء عن أنه لا يتيسر ذلك للإنسان إلَّا بعونٍ من الله تعالى.في حديثٍ كان بين الإمام الكاظم -عليه السلام- وبين أحدٍ من الناس، الذي سأله: أليس أنا مستطيع لما كُلِّفت؟ فقال له الإمام (ع): (ما الاستطاعةُ عندك؟ قال: القوة على العمل، قال له: لقد أُعطيت القوة، إن أُعطيت المعونة، فقال الرجل: وما المعونة؟ قال له: التوفيق، قد يكون الكافر أقوى منك، فتُوفَّق للعبادة، ولا يُوفِّق هو لها). قد يكون شخصٌ أحدَّ ذكاء ، وأكثر نشاطاً، ويكون رزقه قليلاً. وذلك البليد صاحب العقل الضعيف، وصاحب الجسد النحيف، يكون رزقه كثيراً! إذن فالقوة وحدها، والعقل وحده، والذكاء وحده، كلُّ ذلك لا يكفي للوصول للغاية، ما لم يكن الإنسان مُوفَّقاً للوصول إلى تلك الغاية. إنما يوفق الله تعالى الذين عندهم مؤهلات التوفيق من نية خالصة وعدم الإصرار على الصغائر فضلا عن الكبائر والتوكل المطلق على الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة، فالإعانة الإلهية ولكي لا تتقاطع مع العدالة الإلهية فإنها تستند في التوفيق على تلك المؤهلات ودونها فإن أعمال العباد قد تقع في دهاليز الخذلان والهلكة والوقيعة والانحراف، وبهذا اتضح إن التوفيق استحقاق وليس ملكة، ولا يضر ذلك بما ورد في النص أعلاه: أنا الشافي أشفي من أشاء بما أشاء، فهذا نظير قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) فالهداية والضلالة الإلهية وكذلك التوفيق والخذلان الإلهي في طول الهداية والضلالة البشرية وليس في عرضها لكي تتقاطع مع العدالة الإلهية، أي إن الهداية والضلالة الإلهية متوقفة على اختيار وانتخاب الإنسان لأحد النجدين إما شاكرا وإما كفورا، وبما أن الله تعالى خلق الإنسان ويعلم ماذا سينتخب فإنه تعالى ينسب الهداية والضلالة إليه، وإنما هي باختيار البشر بمحظ إرادتهم ولكنها بإمضاء وتقرير من رب العالمين.
https://telegram.me/buratha