بلادة الوعي قد تجدها عند أشد الأصوات ضجيجاً وأكثرها صخباً، فالغراب كثير النعيق صاخب الحركة ولكنه كان ولا زال وسيبقى أسيراً لبلادته، فهو يخدع بمجرد ان تضع أمامه بريقاً ولمعاناً، فينهال عليه ليجد الصياد في انتظاره، كذلك هؤلاء الذين يخدعهم المخادعون والمضللون، حينما يضعون لهم صورة كبيرة براقة الألوان، فينشغل بها المغفلون أو من يعتبرون أنفسهم ممن يمتلك الوعي، فيبقى أسير الصورة ولكنه لا يلتفت إلى ما يختفي تحت الصورة ووراءها وجنبها وفوقها..
وهنا تكمن قصة التضليل السياسي والفكري والثقافي والأخلاقي، فهؤلاء يتقبلون عملية التضليل ويحسبونها وعياً، رغم أنها هي السم الزعاف والقاتل الأثيم واللص الكبير...
فكثير من كلمات الشفافية تخفي وراءها غموضاً وضباباً، والكثير من كلمات النزاهة تخفي وراءها لصوصية فريدة، والكثير من كلمات البناء تخفي وراءها خراباً مريعاً، والكثير من دموع العيون تذرف من عيون التماسيح، والكثير من الأناقة تخفي وراءها قبح أقدام الطاووس، والكثير من فراغ الكأس يشغلك عن النظر إلى ما في بقيته، وكي تتخلص من هذه البلادة لا تكن غراباً ينعق مع كل ناعق، بل خذ الفكرة إلى عقلك ولا تتوقف عند من يقولها، وزنها بموازين الحق عندئذ تستطيع أن تكون كما نصحك امير المؤمنين عليه السلام:" لا يعرف الحق بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق".. فالرجال قد يختفون وراء كلمات منمقة وشعارات زائفة ومآرب خبيثة وأهداف شريرة ومصالح فاسدة، بالرغم من أنهم قد يتحلون بلسان طويل وبقدرة فذة على التباكي..
والرجل الواعي هو وحده الذي لا يخدعه شكل الرجل ولا كلامه في زمن السوء، حينما ينظر إلى حقيقة واقعه وما يعمل به، فزمن السوء تختفي فيه الحقائق ويختلط الحق بالباطل والحسن بالرديء والصدق بالكذب.
ولا نجاة من هذا الخلط إلا باخذ الأمور بمقياس الإمام السجاد عليه السلام الذي كان يقول: "لا تغتروا بكثرة صلاة الرجل أو صيامه، فإنه إن تركهما استوحش، ولكن اختبروهم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فقد يعتاد الرجل على الصلاة فلا يتركها".. ولقد روي عن أن اللعين يزيد بن معاوية كان يضرب ثنايا المولى أبي عبد الله بأبي وأمي وأذن المؤذن، فقام وصلى ثم عاد لمزاولة فجوره، ولكن صدق الحديث وحمل الأمانة وأداء مسؤوليتها هو وحده الذي يدلنا على حقيقة تلك الصلاة وذلك الصيام، فالكذب حبله قصير فقد يغرك إنسان ما بحديث كاذب، ولكن الوقائع ستكشف حقيقة كذبه شريطة أن تبقى تتذكر قوله الأول..
أداء الأمانة حركة ظاهرة في الواقع الاجتماعي لا يخطؤها أهل النباهة، ولكن يبقى الغراب وحده هو من يسقط في فخ المغررين والمضللين لأنه يؤخذ باللمعان لا بجواهر الأشياء.
وما اكثر الأمثلة وأفدحها في واقعنا السياسي والديني والاجتماعي.
2/5/13802
https://telegram.me/buratha