لم نكن نستمع لحوار المالكي على شاشة "العراقية". بل كنا أمام ظهور نادر لعقل السلطة الذي يدير مليون جندي و100 مليار دولار ويحاول ان يقود مصائر 34 مليون عراقي. لقد ظهر في اكثر صوره صراحة، وتكشف أمامنا دون وجل، وأتاح للعيون المتعبة ان تطلع على تفاصيل اللامسؤولية التي أهدرت مليارات النفط وآلاف الأرواح وضيعت اكبر الفرص عبر 4 آلاف يوم أمضاها المالكي في مكتبه. ان عملية الانكشاف أمام الكاميرا التي مارسها عقل السلطة، بلغت ذروتها، كأي عملية ظهور تدريجي، حين راح يتحدث عن مشاريع الطاقة ويبرئ ذمته. حاول ان يلتمس لنفسه الأعذار أمام الشعب، بعد انفاق 70 مليار دولار لم توقف غرقنا في الظلام. بهذه السهولة تحدث عن فشل شراء 56 محطة توليد كهرباء، لان الخطة كانت فاشلة، وحسب زعمه فانه لم يكن قد فهم المشكلة، إذ ان المحطات التي اشتريناها بسبعة مليارات دولار، "كانت تعمل بالغاز. والعراق لا يمتلك غازا كافيا لتشغيلها". لا المالكي انتبه أثناء شراء هذه المحطات، ولا عالمه النووي الشهير، ولا كل فريقه الذي يدير الدولة. يقول بالحرف "انا لست مختصا بالكهرباء، كيف تشتري محطات غازية وأنت لا تمتلك الغاز؟". انه سؤال يبلغ به المالكي ذروة الانكشاف أمام الجمهور، متحدثا عن "قرار غبي" اتخذه "أصحاب الكلمة العليا في عقود الدولة" وهم ليسوا كهربائيين كما هو معروف في مكتبه. هكذا يدير السلطان الدولة إذن، وهكذا بالضبط يدير ملف الأمن والاستخبارات، وحواره مع مراكز القوى السياسية في المنطقة والعالم، وهكذا نغرق.
الذروة التي كشفت مستوى التفكير المتحكم بمصائرنا، تمنح خيالات العراقيين مادة لتصور ما يجري في اخطر الملفات، ولن نكون بحاجة لتصور حجم الخطأ، بل بات في وسعنا ادراك كيف يتعامل المالكي مع الأخطاء الكبيرة، بهذا اليسر والسهولة، وإلقاء اللوم على "خبراء أغبياء".
السلطان لا يكتفي بوصف الخبراء بالهبل، بل يخطو الى الأمام ويقدم نفسه كخبير في "ملفات تخصصية نادرة". لقد استذكر بمرارة المفلس، في لحظة انهيار الدولة حوالي سجن ابي غريب، "انتصارات" صولة الفرسان، وراح يقدم عرضا مؤسفا للمعركة قائلا: "لم ينجح ضباطنا في مواجهة الميليشيات، وارتبك الوضع واشتعلت البصرة، حتى انني طردت الضابط البريطاني من الاجتماع، ثم قلت لضباطنا: اتركوا المدينة للمسلحين كي يتحولوا من مهاجم الى مدافع.. وهنا نجحت الخطة"!.
انت "جنرال بالفطرة" اذن يا حاج. ومع هذا فأنت تفشل في اعتقال البطاط قائد جيش المختار وقد طلبت من قواتك البحث عنه دون جدوى كما قلت. ولأنك "عسكري بالفطرة" فسيمكنني ان أتخيل كيف تتدخل في عمل جنرالاتك، وكم عملية فاسدة دفعنا ثمنها بسبب شعورك انك "جنرال بالفطرة" مستندا الى مشورتك "الرفيعة" التي انقذت جيوش العراق وبريطانيا واميركا في بصرة 2008.
ان "التكشف" الاخطر لعقل السلطة في هذا الحوار، هو طريقة المالكي في التعامل مع منافسيه الأقوياء. لم يتمكن الحاج من إخفاء شعوره بالقلق من معنى انتخابات 2014، حيث ستتكرر نتائج مجالس المحافظات ويزول مجد 2010. وبشكل لا شعوري أمسك المالكي بالصورة الراهنة للتحالف بين الصدر والحكيم الذي يقدم أداءً سياسياً مغايراً ويبرم تسوياته المتعقلة بالاشتراك مع الاكراد والسُنة. الحاج يمسك بهذه الصورة ويريد تمزيقها ودفع الجمهور الى نسيانها أثناء التوجه للانتخابات القريبة. ودون ان يدري راح يتوسل بالجمهور ان ينسى، فأخذ يميت شكل الحاضر باستدعاء صورة قديمة لتيار الصدر تتعلق بكل فوضى الحرب الاهلية قبل 2008.
لم ينشغل المالكي بتفسير الحاضر، ولم يقل لنا لماذا فشل هو بينما نجح شباب في التيار والمجلس والكتل الحليفة في محور "اربيل النجف"، بسد الثغرات التي تركها السلطان على جدار العلاقات الوطنية، من "ملحمة طوزخورماتو المجيدة" الى عمليات "الحويجة الكبرى". بل حاول ان يذكرنا بلحظات الفوضى داخل الاحتراب الاهلي. ونسي انه اول من يتوجب عليه استذكار تلك الفوضى، ليكف عن اخذ الوطن ثانية الى حافة الاحتراب.
قدم لنا الحاج اعترافا نادرا بمستوى عقل السلطة. واعترافا مبكرا بالهزيمة، وظل يتمنى ان "لا ينسى اهل البصرة". اكيد يا حاج، لن ننسى، لا في البصرة ولا غيرها. وكيف ننسى؟
تعليق لطيف للقارئ كاظم الساعدي:
ذكرني هذا المقال بقصة طريفة تنطبق على واقع الحال وزير الطقس يحكى أنه كان فى قديم الزمان فى احد الممالك الصغيرة ... ملك يعشق الصيد فى الغابات وكان لهذا الملك وزير مختص بحالة الطقس فإذا ما أراد الملك أن يخرج للصيد أمر الوزير أن ينظر فى أمر الطقس فيذهب الوزير ويضرب الرمل والودع ويقرأ مسارات النجوم ثم يعود للملك فيخبره إذا كان الطقس مناسبا للخروج أو غير ذلك. حتى جاء يوم أراد الملك أن يخرج للصيد وقرر أن يصحب معه الأميرة والملكة حتى يشاهدا براعته فى الصيد. وأمر الوزير أن يخبره عن حال الطقس فقال الوزير الطقس رائع ومناسب جدا يا مولاى فخرج الملك فى موكبه بصحبة الأميرة والملكة وما أن أوغلوا فى قلب الغابة حتى إنقلب الجو فجأة .. رياح وأعاصير وسحب وأمطار وأتربة وجزع موكب الملك وسقطت الأميرة والملكة فى الطين والوحل وغضب الملك غضبا شديدا ونقم على وزير الطقس أيما نقمة. وبينما هم عائدون إذ رأى على أطراف الغابة كوخا لأحد الحطابين يخرج منه الدخان فطرق الباب فخرج إليه الحطاب فسأله الملك. لماذا لم تخرج لجمع الحطب؟ فأجاب الحطاب كنت أعرف أن الطقس سيكون اليوم سيئا فلم أخرج فاندهش الملك وقال وكيف عرفت ذلك؟ فقال الحطاب عرفت من حمارى هذا!! فقال الملك: كيف ذلك؟ قال الحطاب: عندما أصبح أنظر إلى حمارى هذا فإن وجدت أذناه واقفتان عرفت أن الجو سيئ وإن وجدت أذناه نازلتان عرفت أن الجو مناسب فنظر الملك إلى وزيره وقال له .. أنت مفصول وأمر بصرف راتب شهرى للحطاب وأخذ منه حماره وأصدر الملك مرسوما ملكيا بتعيين الحمار وزيرا للطقس ومنذ ذلك الحين صارت الحمير تتولى المناصب الرفيعة.
1/5/13818
https://telegram.me/buratha