الحاج هادي العكيلي
لازال الموقف غير محسوم من الطغيان ، فأن موقف الضمير الجمعي منحاز إلى الطغيان ، ويحب الطغاة ، بل ويقدسهم ، ولكن بشروط ، وابسط هذه الشروط لن تكلف أي الطاغية أكثر من الكلام في الهواء .في نظري موضوع تمجيد الطغاة والمستبدين لدى البعض مهما كانت مساوئهم وما اقترفوه بحق شعوبهم منتشراً، والى ألآن يترحم على صدام ويعده بطلاً برغم من أن شعبه سعيد بالخلاص منه . هل هو خلل في النفسية وتعويض نقص لعدم وجود الشخصية الملهمة والقدوة ، فنجعل من السفاح والمجرم والمفسد بطلاً . أن الطغاة لا ينزلون من علياء السماء ، ولا يخرجون من أعماق الأرض ، ولا نتيجة التفاعلات الكيميائية في كوكب أخر ، والطغيان ينبع من فراغ عدمي ، تتخلق من تضافر مجموعة من العناصر التاريخية والنفسية والثقافية التي تصنع حالة الطغيان ، لتصنع نموذج الإنسان الطاغية ، لتحدث الجدلية الرهيبة ، البيئة تصنع الطاغية ، أم الطاغية يصنع بيئة الطغيان .وتوصف مجتمعات الشرق بأنها البيئة الخصبة لنمو شجرة الطغيان وتربية مولود الطاغية وحضانته .حيث لا يجد الطغاة والقساة المجرمون ما يستحقونه من الإدانة ، بل قد يجدون كثيراً من التبجيل والتقديس ، وربما تم وضعهم في خانة الإبطال كغزاة فاتحين في الماضي أو كمناضلين ضد الامبريالية في العصر الحديث . فمنذ زمن العرب الأقدم مروراً بزمن الحجاج وأمثاله في قروننا الوسطى الإسلامية إلى زمن صدام : زمن المقابر الجماعية وقتل البشر كما تقتل الحشرات بالمبيدات ، ونحن نبرر للطغيان في كل العصور . ومع تغير الأحوال في العراق ، نجد أن هناك ثابتاً لا يتغير ، هذا الثابت يتلخص في أن هناك نوع من الإصرار عند بعض الجماهير من خلق طاغية جديد بشعارات تباع وتشتري بالمجان ، وبأفعال مشينة لتخليدهم . وما دعوة عضو ائتلاف دولة القانون سامي العسكري إلى وضع صورة نوري المالكي في العملة الورقية الجديدة ، ما هو الا لتكريس الطغاة كما فعل الطاغية صدام عندما كان عنده هاجس الخلود بعد موته من أن التاريخ يجب أن يخلده ببعض الإعمال التي نبذها الشعب لان الشعوب هي التي تخلد قادتها . ففرض وضع صورته في كل مكان حتى في الامكان التي لا يجب أن تضع تلك الصور ، وطبع أسمه على الطابوق الأثري لمدينة بابل التاريخية عسى أن يذكره التاريخ كما ذكر حمورابي في مسلته المشهورة .ووضع له صنم في كل ساحة من ساحات العراق مصنوع من الاسمنت أو النحاس أو البرونز معتقداً أن الأجيال تخلده ، وطبع صوره على كل ورقة عسى منه أن الشعب لا ينساه ، ولكنه حفر له حفرة واحدة ليختبئ بها لجبنه ، فهذا مصير الطغاة والمستبدين ، فدائماً تكون أنفسهم أعز من نفوس شعوبهم ، فلقي مصيره المحتوم .تمجيد الطغاة ، بل حتى مجرد التسامح الثقافي معهم ، يسحق الضمير العام ، ويحدث تشوهات طغيا نية في تصورات الأمة التي تستهلك ثقافة الطغيان ، ليس الأمر مجرد رأي ، بل هو موقف مبدئي من الإنسان.في تقديري أن حدوث هذا وتكرار حدوثه راجع إلى عطب ثقافي كبير ، أي راجع إلى ضمور حضور الإنسان في الثقافة بمفهومها العام . الحس الإنساني الذي يتنامى إلى حساسية تجاه الإنسان وحقوقه ليس موجودا في ثقافتنا ؛ كما هو موجود في الغرب . لهذا ، فالغرب تشكّلت لديه عبر محاولات وتحولات نوعية منذ أيام اليونان ثقافة إنسانية ، صنعت الضمير الإنساني الذي نراه في الغرب اليوم ، والذي يشكل مناعة ضد ظهور الطغاة ، بل وضد كل مظاهر الطغيان ، حتى ولو في أصغر الأشياء فالثقافة بمفهومها العام ، تقوم بتشكيل الضمير ، وكما أن الثقافة في أنساقها الكبرى لا تتجزأ ؛ فالضمير الناتج عنها لا يتجزأ ، أي أنه يستحيل على ثقافة طغيا نية لم تتآنسن بعد أن تحس بالإنسان . فمثلا ، ثقافة تبرر اضطهاد العمال والخدم ، أو على الأقل لا تراه كبير جرم ، يستحيل عليها أن تمتلك حساسية ضد طاغية كصدام مثلا ؛ لأن الإحساس مفقود أصلًا . ولهذا يتحوّل الطغاة كصدام في هذه الثقافة القائمة على تبجيل الطغاة واحترام الطغيان بل النظر إلى الطغيان كحالة قوة ، يتحول أمثال هؤلاء من مجرد طغاة مجرمين إلى أبطال مناضلين ، حتى ولو هزموا في كل ميدان .هذه هي ثقافتنا ، ومن ثم ، فهذا هو واقعنا . وحقيقة ؛ كلما توقعت أننا تجاوزنا القنطرة الأولى على الأقل ، وأننا بدأنا ننظر إلى الإنسان من زاوية الإنسان ، ومن زاوية الإنسان فقط ، وأننا بدأنا نضع الشعارات محل فحص على أرض الواقع ، تكون المفاجأة أننا لا نزال كما كنا ، بل وربما نتوجه نحو الأسوأ ، ليس هذا تشاؤماً ، بل إن كثيراً من الدلائل تشير إلى أننا نُمعن في هذا الاتجاه ألطغياني . من يصدق أن هناك ، وعلى الأقل من بيننا ، من لا يزال يغفر لصدام كل خطاياه ، بل ويزيد على ذلك ؛ فيراه بطلًا ؟فحين قال فرعون : أنا ربكم الأعلى .. فكان رد الله سبحانه وتعالى .. قال الله لموسى وهارون {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى َقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } .
https://telegram.me/buratha