احتمال الخروج من مأزق الأزمة السورية برابح وخاسر كان مستحيلاً من دون حرب إقليمية تتسّع دون سيطرة قد تؤدي إلى إمكانية اشتباك دولي. لذلك كان لا بد من إيجاد تسوية بمعادلة لا خاسر - لا خاسر. المفاجأة أن فريقي الصراع الكبار خرجا كرابح - رابح
فتحت تسوية الأزمة السورية (من خلال ولادة «النظام العالمي الجديد») نوافذ عديدة لتسويات إقليمية لم تكن ممكنة قبل اليوم في ظل أحادية القيادة السابقة وانحيازها التام لمحورها بدءاً بأوروبا وصولاً إلى إسرائيل وتركيا مروراً بالخليج. البعض يبالغ في تفاؤله إلى درجة توقّع أن تندرج تسوية الأزمة السورية على تسويات إقليمية أو حتى دولية. فالتصرف الروسي في المفاوضات الدائرة حالياً يهدف إلى عدم الوقوف عند المرحلة الحالية، بل يطمح إلى أن يقنع الأميركي لبحث ليس فقط الخطوط العريضة للنظام الجديد، بل التفاصيل الدقيقة لنظام كهذا.
أبرز مفاصل نتائج الصراع على الأرض السورية كان الاعتراف من قبل أحادية القيادة الحالية برئاسة الولايات المتحدة ومعها بعض أوروبا، بأن العالم تغيّر، وبأن هذه القيادة لا يمكنها أن تستمر بدون المشاركة (المفاوضات الجارية على النسبة تُحدّد في السنوات المقبلة) للمحور الجديد بقيادة روسيا ومن ورائها الصين المتخفية لأسبابها الخاصة المتعلقة بأولوية النمو الاقتصادي، المعتمد على المعاهدات التجارية المتعددة. هذا التنازل والنزول للمحور الأول، الذي تأسس لفريق عدّ نفسه الرابح في الحرب العالمية الثانية (عوقبت اليابان وألمانيا حتى اليوم بمنعهما من العضوية، وخرج الاتحاد السوفياتي منه)، كان نتيجة أن هذا الفريق لم يعد هو نفسه الذي ربح من دون إحصاء لعدد ضحاياه ولا الكلفة المادية. أغلب مجتمعات هذا الفريق تحولت إلى مجتمعات استهلاكية لا تعرف للتقشف معنى، تعتمد بصورة كبيرة على إنتاجيات مجتمعات الفريق الصاعد في النظام الجديد، التي ما زالت تعتمد على التضحية العسكرية لحفظ أمنها القومي. دول أوروبا ودول الخليج بدون استثناء غير قادرة إلا على رفع الصوت واستعمال التهديد والوعيد، لكن للاشتباك لا بد من الاستعانة بالأخ الكبير.
لم تحظَ أزمة باهتمام عالمي بهذا الحجم منذ أزمة الصواريخ الكوبية، كما حظيت الأزمة السورية، لكن ما تميّزت به هذه الأزمة من دون تفسير (عدا لا صدقية كولن باول في الأمم المتحدة عند طرحه خرائط أسلحة الدمار الشامل في العراق)، هو النقاش العلني المفتوح والحرب الإعلامية إلى حد الإعلانية من جميع الأطراف بدءاً بالرئيسين الأميركي والروسي. سابقة كانت كتابة بوتين رسالته لـ«نيويورك تايمز» في ظل أزمة كهذه (وسابقة أيضاً سخافة وهزلية رسالة فؤاد السنيورة، مع بعيد الشبه والتشبيه).
الأهم من التسوية الأخيرة بين القطبين الأميركي والروسي، أن تفاصيلها ما زالت في بداية المفاوضات عليها، وأن بعض نتائج هذه التفاصيل ستظهر قريباً والكثير منها سيترتب خلال السنوات المقبلة، وأن هذه النتائج برزت نتيجة تصرف ورد فعل العديد من الدول خلال أزمة تجنّب المواجهة:
1. إن أحد الطرفين لم يكن يرغب في الاشتباك العسكري المواجه لأن كليهما كان تحت ضغط كبير لإمكانية الخروج عن السيطرة على الأرض وتدحرج الأمور إلى غير المعقول إنسانياً.
2. الواضح أن إسرائيل كانت الطرف الرئيسي الذي كان يقلق من تدحرج الأمور، ويرغب في تجنب المواجهة، فهي لديها قدرة تدميرية لا خلاف حولها، لكنها غير مضطرة إلى أن تمر بدون مسوّغ وجودي في تجربة وصول صواريخ تدميرية إلى مدنها ومنشآتها. وحسب المعنيين أميركياً، فإن المؤسسات اليهودية الحاضنة لأمن إسرائيل كان لها الدور الأكبر لعدم جنوحها في اتجاه انتحاري.
3. في هذا الإطار، ستكون روسيا ضامناً رئيسياً لأمن إسرائيل، (وهي لا ترى ضيراً في ذلك)، إضافة إلى ضامنة شريكة لأمن النفط والغاز والإقليميين.
4. أثبتت الولايات المتحدة مرة أخرى أنها القوة الفاعلة والمهيمنة في المحور الغربي نتيجة انتشارها العسكري وحجم اقتصادها وبنيتها السياسية.
5. في المقابل، فضحت هذه الأزمة ضعف أغلب دول المحور، الذي تقوده الولايات المتحدة، بدءاً بأوروبا مروراً إلى تركيا (المحتمية الدائمة بالناتو، والمهددة باستمرار ببنية مجتمعتها المتعدد من إثنيات ومذاهب) إلى الخليج العربي.
6. إن «الربيع العربي» الوحيد الذي أفلت من مصادرته وابتزازه هو المصري، ومصر عادت قلب ما تبقّى من العرب والعروبة. الأيام المقبلة ستضع مصر أمام امتحان كبير، للمحافظة على إنجازات الثورة والتصدي لمحاولة مصادرتها من الحلف الأميركي - التركي - القطري (تبقى غريبة علاقة السعودية بمصر، مقابل علاقتها السورية، مقابل التأييد المصري للنظام السوري).
7. أظهرت الأزمة السورية مرة أخرى هشاشة، إن لم يكن إعلان وفاة ودفن النظام العربي الزائف ومؤسساته بدءاً بالجامعة العربية. هل يُعقل أن أغلب الدول العربية أظهرت هذا الضعف والرضوخ في وجه النفوذ والمال، من غير الاتّعاظ بمثل «أُكلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض؟). لكن الأهم هو عودة الروح إلى الفكر الناصري والصحوة الجزئية للفكر في الشارع العربي.
8. بين الدول العربية عادت قطر إلى حجم شبه طبيعي تنسّق مع إخوتها الكبار، بينما ظهرت السعودية أنها الدولة الخليجية الحاضنة، وأن مصالحها يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في التسوية الإقليمية، بينما ستعيد الدول الخليجية الأخرى حساباتها وتعود بعضها إلى أحجامها.
9. سحبت إيران أخيراً الاعتراف بأنها الدولة الإقليمية الأولى التي يجب أن يُحسب لها ولمصالحها حساب، وان إدارة أمور المنطقة ستجري من ضمن دور إيراني. تفاصيل المشاركة تبقى للمفاوضات المستقبلية.
10. ضعف البنية الاجتماعية الحاضنة للعصب العسكري في إسرائيل، وإن شعب إسرائيل يخشى الحروب اليوم مناقضاً للفكر الذي نشأ عليه أن يكون في صراع مستمر لضمان ديمومة إسرائيل.
11. تنفّس الأردن الصعداء أكثر من أية دولة أخرى غير سوريا، لكونه اطمأن من فلتان الشارع الإخواني، أو سيف «الوطن البديل» المصلت عليه باستمرار.
لكن مع كل هذه التطورات المرتقبة تبقى العناوين الكبرى لنتائج الحرب الكونية في سوريا، ومفاوضات ما بعد الحرب، هي التي ستفرض نفسها في الساحات الدولية. أهمها:
1. انتهاء أحادية التأثير العالمية وعودة القطبية الثنائية بقطار روسي ومعها الصين ودول البريكس وبعض دول أميركا اللاتينية وشرق آسيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان.
2. قد تكون أهم نتائج التسويات المرتقبة حل النزاعات التاريخية والحديثة في المنطقة، بدءاً من القضية الجوهرية للصراع العربي - الإسرائيلي، وصولاً إلى العراق والملف النووي الإيراني. ومن هنا يمكن تفسير القلق الإسرائيلي البارز هذه الأيام.
3. في هذا السياق، بعض المتابعين يعتقد أن المحور الغربي الحاضن للتطرف التكفيري سيقايض به مقابل أن يضمن المحور الجديد نشاط حركات المقاومة. سيكون لإيران دور رئيسي في هذا الإطار، لكونها وحلفائها لا يرضون عن فلسطين بديلاً. التفصيل سيكون في «ما هي فلسطين الآتية»!
إلى ذلك، ستضغط الدول التي نشرت أدواتها منذ الثمانينات في أفغانستان وباكستان وصولاً إلى العراق وسوريا لإعادتها إلى بيوتاتها ومخازنها مقابل دور لها ولإيران في رسم خريطة النفوذ المستقبلية.
4. سيُعاد في بعض الدول النظر في مسؤولية ودور بعض مَن عاصروا الأزمة السورية. فقد تُسأل وكالة الاستخبارات الأميركية عن تضليلها للرئيس في بعض المعلومات، وهولاند في فرنسا عن جنوحه غير المدروس، وأردوغان وأوغلو في تركيا عن عدم أخذ تحذير رئيسهما عبد الله غُل في ما جنحا إليه، وبندر بن سلطان عن تعريضه المملكة لأخطار أمنية قومية، لم تكن مضطرة إلى أن تكون عرضة لها.
5. من أهم دلائل ولادة النظام العالمي الجديد، من خلال ولادة المحور المقابل لمجموعة رابح الحرب العالمية الثانية، هي الجهود والخطوات التي يقوم بها هذا المحور على الصعيد المالي والاقتصادي. فقد أعلن الأسبوع الفائت عن إنشاء صندوق برأسمال 100 مليار دولار لدعم العملات المحلية لدول المحور الجديد، في وجه المضاربات أو لإعطاء خطوط ائتمانية قصيرة المدى، لدعم عجز المدفوعات أسوة أو بديلاً عن صندوق النقد الدولي. كذلك أعلن العام الماضي عن نية إطلاق عملة بديلة عن العملات الرئيسية المتداولة سنة 2014.
6. وأخيراً، وليس آخراً، يذهب المتفائلون إلى حد الاعتقاد بأن أحد بنود التسوية المستقبلية سيكون إعطاء روسيا، ومن خلفها إيران، حق إدارة جغرافيا العراق - سوريا - لبنان شرط التوازن مع المصالح الأميركية - السعودية، تماماً كما حصل في الصفقة الأميركية - السورية لإدارة الشأن اللبناني بعد اتفاق الطائف. في المقابل كما ذُكر تضمن روسيا أمن إسرائيل والمشاركة الفعلية في اتفاقيات مسبقة في ملفات النفط والغاز من امتيازات واستخراج وتوزيع وأمن، وصولاً إلى كافة أركان محوري «النظام العالمي الجديد».
إذا نجح القطبان في تحقيق حتى ولو بعض الاستنتاجات أعلاه، فقد يدخل الشرق الأوسط في مرحلة استقرار هو بأشدّ الحاجة إليه منذ ما يناهز 100 عام، وإلا فسيدخل في صراعات دموية جديدة وتعود شعوبه أسيرة بين الحياة والموت.
إضافةً، فإنّ فرص النجاح والفشل للتفاؤل يعتمد على حساب نجاح الفريق الانكفائي في الولايات المتحدة. فهذا الفريق يدعو إلى خفض الانتشار الأميركي في ضوء الاقتصاد الذاتي النفطي المتوقع وضعف البنية الاقتصادية لمغامرات عسكرية جديدة. في المقابل قد تظهر قوى لا تناسبها التسويات المطروحة وقادرة على العرقلة وسحب أميركا مجدداً لأداء دور الأخ الأكبر. إن غداً لناظره قريب.
المصدر: جريدة الأخبار
9/5/13917
https://telegram.me/buratha