الحق المهتضم
بادئ ذي بدء أفتتح مقالتي بحديث رائع للإمام علي بن موسى الرضا (ع ) حيث يقول :((من لم يشكر المنعم من المخلوقين ، لم يشكر الله عــّـز وجل)) ، أقف وقفة إحترام وتقدير للسادة النواب الذين ألحقوا مجاهدي رفحاء بمؤسسة السجناء السياسيين وأخص منهم سماحة السيد محمد المشكور الذي كان أول من حّـرك هذه القضية وجمع تواقيع النواب لإدراج مسألة رفحاء في جدول أعمال المجلس وصياغة قرار يخص هذه الشريحة المجاهدة ، ومعه سماحة الشيخ محمد الهنداوي الذي بذل أقصى الجهود بصفته رئيساً للجنة الشهداء والسجناء السياسيين في مجلس النواب وتابع وكافح وسعى كثيراً لتحقيق و إنجاز هذا القانون و إقراره فجزاه الله الف خير . وقبل الخوض في الحديث عن رفحاء و السياسة و السياسيين و المعارضين من إسلاميين و علمانيين ، أقول أنني لا أنتمي الى جهة سياسية إسلامية أو غير إسلامية ، و ما فكرت يوماً بالإنتماء لأي حزب لأني أرى التحّــزب يجعلني مقيداً بوضع لا أستطيع تحمله ففضلت البقاء طائراً حراً يسعد بالعودة الى عشه المبني على أغصان شجرة المرجعية الدينية المباركة .لذلك لا أضع بين يدي القارئ الكريم إلا الحقيقة التي عشتها مستعيناً بالله و واضعاً نصب عيني قوله تعالى :( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) .بعد سقوط أغلب محافظات العراق بيد المنتفضين في شعبان المبارك و كان أركان النظام المقبور يفكرون بالهروبوهذه ليست مبالغة بل هي الحقيقة . خرجنا الى الأرطاوية و ذقنا الأمرّين بين وحوش السعوديين و مجرمي النظام الصدامي و مخابراته . و أطوي رحلة العناء و الخوف و التهديد و الوعيد من الجانب السعودي و الحرب النفسية و النقص في المأكل ، و المشرب ، و السكن في صحراء قاحلة لا ترى فيها مخلوق حتى من الحشرات و الهوام الضارة فضلاً عن الطيور . سأنقل لجميع اخواني هذه الحادثة الخاصة بوضع مجاهدي رفحاء والأرطاوية والتي ربما خفيت على الملايين من أبناء شعبنا العراقي الجريح عامة و عراقيي المهجر في معسكر الأرطاوية و رفحاء خاصة .فبعد أن وفقت لحج بيت الله الحرام و تشـّرفت بتمثيل اللاجئين في معسكر الإرطاوية بصحبة السيد هاشم الياسري الذي كان من رموز المجاهدين في الأهوار . قابلنا شهيد المحراب ( قده ) و كان ذلك عام ١٩٩٢ في فندق ملاصق للحرم المكي ، وكان مُـعَـداً للشخصيات الرسمية . و حضر اللقاء الشيخ همام حمودي ، و الشيخ المولى ، و بعض الحماية . و كنت قد هيأت تساؤلات و كنت ملزماً بطرحها رغم قساوة بعضها لأنها أمانة حّملني الاخوة نقلها لسماحة السيد شهيد المحراب رضوان الله عليه . و بعد طلب الإذن من شهيد المحراب ( قده ) بالحديث الذي اُؤتمنت عليه ، تبسّــم (قده) إذ كان يتمتع بخلق قـل نظيره في أمثاله من المتصّدين للعمل السياسي و الديني معاً (بعكس المتصيدين) .لذلك إمتصّ كل العتب و الكلام القاسي برحابة صدر و بنظرات عطفٍ و حنان أبوي صادقين ، حيث الإبتسامة التي لم تفارق محّيـاه الشريف .و مما قاله في سؤالي المحَدد عن إهمال المعارضة لآلاف اللاجئين في مخيمي الأرطاوية و رفحاء ؟ فتبسم و قال : ( يشهد الله إنني شخصياً و معي الجماعة في المجلس الاعلى بذلنا جهوداً مضنية على مدى سنة و نصف و لم نترك أبواب المنظمات الانسانية في العالم إلا و طرقناها و أوضحنا معاناة الشعب العراقي و معاناتكم في الخارج .حتى أنني إصطحبت معي في بعض الأسفار و اللقاء بمنظمات حقوق الانسان بعض الإخوة من المسيحيين المضطهدين ، و كذلك واصلنا الحوار مع أطراف في الحكومة السعودية .إذ أن المملكة كانت تفرض التعتيم الإعلامي الشديد على و جودكم لأنها إعتبرت كل من في الأرطاوية هم ( أسرى حرب )و هذا قانونياً يختلف إختلافاً واسعاً عن كونكم قارعتم النظام و إنتفضتم في (14) محافظة .و تبسّــم شهيد المحراب ( قده ) و أضاف :( إشكروا الله على أن هيأ لكم من يختلف معكم عقائدياً يقوم بإيوائكم وهذه بحَدها نعمة لا يتمكن الانسان من شكرها ) . و مراعاة للإختصار أترك الحديث عن تواصل شهيد المحراب ( قده) مع مخيمي الأرطاوية و رفحاء عبر ممثليه .و أود أن اضيف حقيقة عاشها اللاجئون في الارطاوية و هي :أن الحكومة السعودية طيلة سنة و نصف كانت ترفض السماح لوفود الدول الموقعة على بنود معاهدة قبول اللاجئين بالوصول الى الارطاوية .فقد أشاع النظام الوهابي : أن جميع من في معسكر الأرطاوية هم من خريجي سجون النظام و السّراقو المجرمين و أغلبهم من الاميين الذين لا يجيدون الكتابة و القراءة .و لكن وفداً من إحد الدول الاوربية ذهل عندما إختار لا على التعيين نخبة فيهم طبيب و مهندس و خريج كلية الفقهو كلية آداب البصرة ، و لم يحتج الى مترجم باللغة الانجليزية ، مما دعى مسؤول الوفد الاتصال بسفارة بلده بزيادة حصة هذه الدولة من اللاجئين من 300 لاجئ الى أكثر من 1000 لاجئ .و من الجدير بالذكر أن السلطات السعودية كانت ترى في شخصية ( شهيد المحراب ــ قده ) أنها الوحيدة المؤثرة في الساحة الدولية و الاقليمية لثقلها الديني و السياسي ، و ما تحمله هذه الشخصية من إرث علمي و أخلاقي جعلها تحتل موقع الصدارة . و هذا لم يكن تصوراً مناهضاً للواقع . وخير دليل أن شهيد المحراب في أحد زياراته كان العراقيون و من شديد حبّهم لشهيد المحراب إعتلوا سيارته . و كان من ضمن حماية الشهيد ضابط برتبة نقيب وهو سـعودي صاح في المستقبلين : لماذا هذه الفوضى ؟ فقيل له : هذا يعبَر عن شدة حبهم للشهيد .!فقال : إني أرى غير ذلك ، فهل تثقون بالجميع أن لا يعملوا شيئاً ؟ و لم يكن بينكم من يبغض السيد و يكيد له و يمسه بسوء . فو الله لو اُصيب السيد بسوء لا سمح الله فإنكم تضيعون من بعده فإن جلالة الملك لا يعير اهتماماً أو يبدي إحتراماً لغير السيد من المعارضة فعليكم بالحفاظ على حياته .!و بما أني ذكرت التأثير الفعلي لشخصية شهيد المحراب ، لابد أن أذكر طريفة عن المغفور له الطيب الحاج كاظم الريسان .( الشخصية المعارضة التي لها كان النظام الصدامي المجرم يحسب لها ألف حساب و قد حكم عليه بالإعدام ) .كان قد دُعي في أحد فنادق الرياض في السعودية لحضور مؤتمر المعارضة العراقية ، فجلس المغفور له الحاج كاظم الريسان ( طيَب الله ثراه ) في وسط القاعة على الارض و أخذ يحّدق في وجوه رجال المعارضة واحداً بعد الآخر و سأل : أين السيد محمد باقر الحكيم ؟فقيل له انه ربما لا يحضر . و هنا ضحك المغفور له بصوتٍ عالٍ و ( أخرج صوتاً من فمه ) ذهل كل من في القاعة .و أراد بهذا التصرف بأن المعارضة لا تليق بغير السيد الحكيم و لا يمثلها غيره .أترك معاناة العراقيين في مخيمات السعودية و ما لقوه من إذلال و تعذيب نفسي لا يطاق . و أعود مع عودة شهيد المحراب ( قده ) الى وطنه الحبيب الجريح . و هنا أضع ما قاله الامين العام لثوار الانتفاضة الشعبانية في هولندا الاستاذ رائد الصلحاوي .في الحفل التأبيني للذكرى العاشرة لاستشهاد شهيد المحراب ( قده) و الذي اقيم في هولندا ، في كلمة نقتبس منها : ((غادرنا العراق و أكملنا المسيرة وأصبحنا على إتصال مباشر بالسيد الشهيد محمد باقر الحكيم فكانت زياراته لنا في محتجز رفحاء وإرسال الوفود التي تمثله ليطمئن على معنويات الثوار و أوضاعهم ، كان يوصينا بالصبر والثبات على قيم وروح الثورة ، والإستمرار بالمقاومة بكافة الوسائل المشروعة للثوار من أجل خلاص الشعب العراقي من ظلم الطاغية صدام . وبعد عودته للعراق إلتفت إلينا رغم عناء السفر ولقائه المطول مع الجماهير المليونية المستقبلة حدثنا وقال : أنتم ثوار الإنتفاضة الشعبانية وثورتكم تاج على رؤوس الثورات العراقية واليوم يتمتع جميع العراقيين بما قدمتموه من تضحيات كبيرة ) . و لم يكن هدفي من هذا المقال مصادرة حقوق كل من وقفوا موقفا انسانيا و بطوليا و الاصرار على إقرار هذا القانون و اخراجه الى دائرة الضوء ، و لكن لبيان أمر ٍ لا بد من ذكره كي نسّـجل هذه المأثرة الى سّـجل مآثر شهيد المحراب ( قده ) و الذي قد صودرت الكثير من مساعيه و تحركاته لخدمة الشعب العراقي الجريح . و تحّمـل ما تحمّـل من تسقيط و حورب من الإخوة الأعداء الذين لم يتركوا طريقاً للتسقيط إلاّ سلكوه .و لكن سيبقى شهيد المحراب في ضمير كل حّـرٍ شريف يرى فيه إمتداداً طبيعياً لمسيرة أجداده الأئمة الطاهرين .فالسلام عليه يوم و لد و يوم إستشهد و يوم يبعث حيّــاً .
https://telegram.me/buratha