د. طالب الرماحي
رأيت تقاسيم وجهك وانت تتكلم بحرقة وألم في لقاء ما يسمى بميثاق الشرف ، و استوقفتني (عبرتك) وأنت تذكر شهدائنا ، وكم كان بودي أن أصدق فيك تلك المشاعر ، لكني وعندما تمعنت في سيرتك السياسية ونمط حياتك بعد التغيير ثم راجعت معايير الدين ، وقوانين المذهب ووصايا الأئمة الأطهار ، وخاصة أني لم أكن بعيدا عنك في ( العهدين ) ، وجدتُ شيئا آخر غير ما تقول وتتحدث عنها نبرات صوتك المتحمسة ،
فحياتك الباذخة التي أهنت بها فقراء شعبك لا تنبأ عن صدق تلك المشاعر ، يا أبا أحمد .. علمتني سنوات عمري الستين وقراءتي لسيرة أهل البيت عليهم السلام ، وسيرة الصالحين والطالحين ، أن المناصب العليا مصائد الشيطان ، والراغب في الدنيا كشارب ماء البحر ، كلما شرب منه ازداد عطشاً ، وأن شهوة الحكم إذا أصبحت حلم المناضل المسلم فإنه يفقد إسلامه قبل أن يصل إلى الكرسي ، وعليك أن تتصور حاكما فقد كل مبادئه التي عاش من أجلها عقود طويلة ، وشغله صخب السلطة ومغرياتها والمناصب وامتيازاتها ، ووقع تحت تأثير سكرة الحكم ، فهل يخرج على شعبه بوجه جميل ؟؟! .
كان بودي أن أرى فيك الزهد الذي كنت تغمر به اسماعنا في لندن وأنت تتحدث عن أخلاق أهل البيت ، لا أعتقد أن في وسعك أن تفعل ذلك بعد دنيا 2003 ، وأنى لك أن تتحدث عن زهد علي عليه السلام وأنت تشغل قصر من قصور صدام وتتنقل في غرف وممرات غمرتها أنفاس طاغية سفك من دمائنا ما يهتز لها عرش الرحمن ، ووطأتها أقدام مستبد لطالما وطأ بها أضلاع الوطن ، أنى لك أن تتحدث عن الأثرة أو المواساة التي طالما رددتها في محاضراتك ( أيام زمان ) وقد تعمدت أن تمسح من تفكيرك مفردات الفقر ، وهل تجتمع مشاعر الفقر ومشاعر الثراء والأبهة في قلب واحد ؟
لقد حدثتنا في يوم ما أن الإمام علياً عليه السلام أبى أن يشغل ( قصر الإمارة ) وسكن بيتا صغيرا بلا أثاث ، وعندما سئل عن ذلك الأثاث أجاب مبتسما : لقد نقلته إلى البيت الدائم ، أولا تعلم أن الزهد شرط اٌلإيمان ، وأن الله لا يجمع لمؤمن جنة الدنيا والآخرة إلا لمن ارتضى من الأنبياء أو الأوصياء ، ولا أحسبك تجرأ فتعد نفسك من أحدهما ، حتى الإمام الخميني الذي كنت فيه معجبا ، أبى أن يسكن في أحد قصور الشاه وأمضى حياته الكريمة في ( حسينية ) ( جمران ) ، فما بالك تزاحم المالكي وأركان حزبه على الدنيا ، أو لا تعلم أن إمامك علي عليه السلام يقول : أن الدنيا ( جيفة ) فمن أرادها فليصبر على مزاحمة الكلاب عليها .
يا أبا أحمد.. منذ أن سقط نظام الفسق والفجور في 2003 ، وشعبك يبحث عن رمز يستحق كلمة القائد ، فيه شيئا وإن كان ضئيلاً من زهد علي وخلق زين العابدين وحصافة الرضا ، الرضا عليه السلام يا أبا أحمد كانت شروط قبوله ولاية العهد للمأمون ( أن لا يعيّن ولا يعزل ولا يقضي ) ، كلها تخص المناصب وامتيازاتها ، ما كان عليه السلام يريد لأتباعه ومحبيه أن يفقدوا مجد الآخرة الدائم بدنيا مزيفة تنتهي بالذل والعار ، كان بوسعه أن يفعل ما تفعلونه وما يفعله بالذات قرينك المالكي فيحشوا أتباعه في مناصب الدولة ومؤسساتها ، كان في وسعه أن يستميل الفاشلين والانتهازيين والمتملقين ليعزز مقامه السياسي ، لكنه لم يفعل لأنه يخشى الله ، ويحترم دينه ومبادئه ، ويحرص على عاقبة أتباعه ، كان ديوان الإمام ومدارسه السياسية مزارع تنبت زهور آدمية وجمال بشري يعبق بعطور الجنة ، وترعى المخلصين والأتقياء والمصلحين ،
فما بالكم حولتم حزب الدعوة ( لمدرسة مافيا ) تخرج السراق والمفسدين والفاشلين ، كان عبد الفلاح السوداني نموذجا للمحاضر الإسلامي المؤمن تحول بين ليلة وضحاها إلى سارق محترف لا يجيد إلا فن استنزاف أموال فقرائنا لصالح الحزب وحفنة ممن جاء بهم من المقربين الذين احترفوا الفساد ، إنه ضحية من ضحاياكم لقد فتحتم له أبواب دنيا هرون الرشيد وما كان أمامه من خيار غير السقوط ، وأنى للنفس البشرية أن تقاوم مغريات الأموال والعقارات وامتيازات أخرى لا تحصى ، صغتموها على مقاييس نهمكم وعطشكم ، ومثل السوداني المئات بل الآلاف تتحملون وزر ضياعهم وضياعنا، وأخيرا وليس آخرا الشاب ( أبو زمن ) الذي كنا نرعاه في لندن وكان شريفا مؤمنا حتى ضممتموه إلى مافيا شبكة الإعلام العراقي ، لقد تحول حزب الدعوة وأمينه وأعضاء مكتبه السياسي بعد 2003 إلى رؤساء تشرف على مافيات سرقة المال العام في الوزارات ، وخصصوا لكل وزارة عضو ارتباط يمهد لعمليات سرقة قوت الفقراء والمساكين ، وهذا يعني أن بقاء حزبكم يا أبا أحمد هو بقاء لمعاناتنا وهدر أموالنا واستمرار تخلفنا ، ويعني أيضا أنكم تعملون وبشكل صريح ( وعلى الطاولة ) كما اعترفت على تشويه سمعة التشيع والمذهب الذي أحتفظ على نقاء فكره ونزاهة علمائه ورجاله 14 قرنا قبل أن تعمل به معاولكم هدما وتشويهاً ، لقد سرقتم عذرية الأمة وأهنتم شرفها وبعتم كرامتها في أول مزاد اعترض حياتكم السياسية .
عشر سنوات عجاف من عمر العراق ، تخلف وقلة الخدمات وجيوش الحالمين بلقمة حلال من العاطلين ، والفساد يضرب بأطنابه كل دوائر الدولة ، انت تعترف بذلك فتقول بلا خجل وحياء : أن الفساد قد انتقل من تحت الطاولة وأصبح فوقها ، أنت من شارك في نقل الفساد إلى فوق الطاولة أيضاً ، لأنك جزء من منظومة الحكم ، واكتفيت بحياة الدعة والأنس ، وفضلت أن تكون ( متفرجا ) على أن تكون معترضا ، وأنت شريك في الجريمة ؟ فتكون مع المالكي ومن يشارككم ( الغنيمة ) مسؤولين عن ذلك الفساد ، لقد أهلك الفساد شعبنا وأتعبه ، وبدد ثرواته وما زال حتى الآن يحرق بأموال فقرائنا من اليتامى والأرامل والمعدمين ، يتستر عليه المالكي ويتحالف مع القضاء ليحمي أبطاله ، ولا يتردد بلا حياء يتكلم عن النزاهة ، وأن حكومة ينخرها الفساد ، لا يمكن لرئيسها أن يكون نزيهاً ، وإذا سلمنا بغير ذلك فعلينا أن نعترف أن صداماً لم يكن مجرما وهو يرأس نظاما دموياً .
كنت قد ظننت وأنت تعلن عن تيار الإصلاح ، أنك ستقود الإصلاح في حكومة ينخر بها الفساد ، وصبرت طويلاً انتظر منك ( نظرية إصلاح ) وأنت ( المنظر) تخرج بها العراق من مخالب الفساد والتخلف ، لكنك لم تفعل ، لأن تيار الإصلاح لم يكن من أجل الإصلاح ، وليس من أجل الوطن والشعب ، بل هو ردة فعل لإخراجك من أمانة حزب الدعوة ، وكان في وسعك أن تصدق مع الوطن والشعب وتعتزل الحزب الذي أقصاك ، وكانت فرصتك أن تتحالف مع شعبك وتجمع المخلصين من حولك ، وتجعل كل همك انقاذ الأمة وتكرس كل حياتك وطاقاتك لطريق الإصلاح الذي جعلته عنوانا كبيرا في حياتك السياسية ، لكنك لم تفعل ، ولم تنتصر على نفسك ، ورجعت لحزب الدعوة صاغرا بعد أن رأيت أن مفاتح الدنيا ومغرياتها بيد ( أمين الحزب ) المالكي ، لقد كانت كبوة قصمت ظهر عاقبتك وعصفت بآخرتك وأغلقت على شعبك إلى الأبد الأمل بك .
يا أبا أحمد .. لقد هيأ لكم القدر فرصة نادرة ، حملتكم لقيادة هذا الشعب المظلوم ، كان في وسعكم أن تكونوا فيها من الخالدين ، لقد خيركم القدر ، بين أن تفرشوا قلوبكم جسراً لشعبكم وتسخروا قدراتكم لمصالح الفقراء والمعدمين ، فترتقوا صوب المجد ، لأن الشعوب وحدها من يمجد الأبطال والمخلصين ، وينقش أسماءهم في سجل الخالدين ، وبين أن تجعلوا من الأمة جسرا لأحلامكم المريضة ولشهوات زائلة ودنيا حقيرة وقصيرة ، بالله عليك وعلى قرينك المالكي أي الخيارين اخترتم ، تمعن من حولك ، فهل يحيط بك ما يحيط بفقراء شعبك ، من تخلف وفقر ومساكن هي أقرب إلى الخرائب ، حرمان وخوف وموت تحمله مفخخات كلاب البعث وخنازير القاعدة ، وجهل هو أخطر من الإرهاب ما زال يثقل كاهل الأمة ، لم يخطو أحد منكم لمحاربته ، بل عززتموه وكرستموه بعد أن رأيتم فيه عونا لكم في ترويض الشعب ، نعم أن الحاكم المستبد بحاجة إلى قدر من الإرهاب ، وهو في حاجة إلى فوضى ، وهذا ما عملتم عليه . تمعن فيما حولك ، فهل تجد ما يحيط بشعبك من كوارث أم ترى قصورا مشيدة وسيارات فارهة وتجارة عامرة ، وظهور محصنة بأكثر من جدار فولاذي في المنطقة الخضراء ، لن تخدعنا يا أبا أحمد بعبراتك وأنت تتحدث عن شهدائنا ، وذويهم يعيشون في الجحيم ، وأنت تتمتع مع من يحيط بك بالنعيم .
وأنت تتحدث عن الشهداء ، خنقتك العَبرة عليهم ، ولا أدري أهي حزن أم لغرض آخر الله وحده يعلم ، لكني أعلم جيداً أنك أشحت بوجهك وكنت وقتها رئيسا للوزراء عن دعم المؤتمر الدولي الأول الذي أقمتُه في لندن لشهداء المقابر الجماعية في أيلول 2006، أرسلتُ لك أكثر من خطاب فلم ترد ، وحاولت الاتصال بك فلم أفلح ، وعندما هيأ لي الله مستلزمات عقد المؤتمر وشاع أمر انعقاده ، حيث أخفقت حكومة المالكي ولجنته البائسة اللجنة العليا للمقابر الجماعية ، ، أسرعتَ ، وكنتَ أنت في لندن وطلبتَ كلمة في افتتاح المؤتمر عن طريق الأخ الأنصاري مسؤول حزب الدعوة في لندن ، وبالطبع كان عليَّ أن ارفض طلبك ، لسببين الأول هو أنك قد رفضت دعم هذه القضية بأي شكل وهذا هو استخفاف واضح بشهداء تلك الجريمة المروعة الفريدة ، وكنتُ قد علمتُ وقتها أنكم كنتم تشككون بقدرتي على عقد المؤتمر ، ناسين أو متناسين أن نصرة المظلومين من أحب الأعمال إلى الله ، لكن حساباتكم السياسية قد طغت على حساباتكم الإنسانية والدينية ، ولأن جدول الإيمان بالغيب فيكم قد أصابه الجفاف ، وما كنتم ترغبون في أن يتولى غيركم قضية ، فشلتم بها أو تخليتم عنها ، وهذه من الخصال التي تميز بها حزب الدعوة بل كان يوصي بها حسب علمي وقد كنت من الدعاة . والأمر الثاني هو ما أبلغته للأخ الأنصاري ، أن المؤتمر خصص لمناقشة تفعيل ملف المقابر الجماعية الذي أهمل من قبل حكومتكم وحكومة السيد المالكي ، وما كنت لأسمح بأي خطبٍ سياسية ، علما أني رفضت الكثير من طلبات مماثلة لأحزاب وشخصيات أخرى ومنها سماحة السيد حسين الصدر والسيد الوزير أكرم الحكيم الذين حضرا المؤتمر مع رفضي أن يلقيا فيه كلمة ، فيما أنت وعلى ما يبدو مهتم بالكلمة أكثر من الدفاع عن حقوق الشهداء.
يا أبا أحمد .. أني لأعجب على جرأتك وجرأة المالكي على الله وعلى الناس ، تتحدثون عن الإصلاح وأنتم تخوضون في غمار الفساد وسرقة أموالنا والتستر على المفسدين ، وبالأمس القريب أمين حزب الدعوة ورئيس وزراء هذا البلد سيء الحظ ، يرفض تنفيذ قرار القضاء بمذكرة إلقاء القبض على 22 حرامي ومفسد في زارة الداخلية في قضية أجهزة كشف المتفجرات التي أحرقت المليارات من أموالنا ، بحجة غريبة وهي أن تنفيذها يعني غلق الوزارة ، نحن نعلم جيدا والشعب يعلم أيضا السبب الحقيقي وراء ذلك الرفض ، فلماذا يا أبا أحمد لا تتدخل في إصلاح هذا الخطب العظيم وأنت رئيس الكتلة التي ينتسب إليها المالكي ، ولماذا لا تنهى عن هذا المنكر وأنت تشجبه بعلو صوتك أمام الكاميرات ، إنها بدعة من البدع التي غمر بها حزب الدعوة عراق ما بعد التغيير ، فلماذا لا تظهر علمك وعلى ما أظن أنك تحسب نفسك من العلماء والمنظرين وترأس تيارا للإصلاح ، فهل الإصلاح في عرفكم ما تصلح به دنياكم وإن تخربت به دنيا الأرامل واليتامى وشاغلي الخرائب والعشوائيات ؟ ...
لقد اخترتم بمحض إرادتكم الدنيا ، وفشلتم في الاختبار الإلهي ، ولم تنجحوا أمام مغريات السلطة وامتيازاتها ، وما كان الله عدوا ولا صديق أحد منا ، لكنه يختبر إخلاصنا وصدق أحاديثنا ليخرج الخبء مما يعتمل في دواخلنا ، فوضع لنا - رحمة منه وإظهارا لعدله - قانونا خص به المؤمنين ليعرف مدى تطابق ادعاءاتنا ومظاهرنا وسماتنا ، ليكشف الصدق من النفاق وحتى لا تنخدع الأمة ، ولابأس في أن أذكرك وعلك تنتفع بهذه الذكرى ، بما ورد في القرآن الكريم من قول صريح يخاطب به المؤمنين ومن يتشدق بالإيمان : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) . أبا أحمد .. إن الطيب هو من يؤثر الفقراء على نفسه ولا يتخذهم جسرا لدنياه ، ولا يتحصن ويتركهم في العراء نهبا للذئاب ، ولا يتخذ من ضعفهم وقلة حيلتهم أو جهلهم طريقا للثراء ، ولا يعبث بأموالهم شركات أدوية ، وقنوات فضائية تمجد بحمدة ، وعقارات هنا وهناك ، الطيب من يفتح أبوابه لفقراء قومة ولا ينعزل عنهم في برج عاجي أو قصر من قصور الطغاة الذين سبقوه و( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) .
https://telegram.me/buratha