ما الذي حدث للفكرة القائلة إن تركيا كانت القوة القادمة في الشرق الأوسط, باقتصادها المتنامي وديمقراطيتها المستقرة في ظل حكومة إسلامية معتدلة التي يمكن أن تشكلَ نموذجاً للدول العربية مع إنهائها عقوداً من حكم الدولة البوليسية في سنة 2011؟ بدت تركيا في موقع مثالي للإمساك بزمام القيادة, حيث لم يكن لها أي أعداء في المنطقة كما كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لذلك لم يكن من المبالغة أن تقارنَ بعض العناوين المبسطة تركيا الحديثة بالإمبراطورية العثمانية قبل أن تصبحَ قوة عظيمة في القرن السادس عشر.
بعد سنتين, لم يتكشف أي من هذه الأشياء الجيدة بالنسبة إلى تركيا, كما أنها بلا أصدقاء تقريباً في الشرق الأوسط. فقد تمكنت في الوقت نفسه من معاداة القوى الشيعية الأربع إلى الجنوب والشرق: إيران, والعراق, وسوريا, وحزب الله في لبنان – وكذلك الملكيات السنية في الخليج باستثناء قطر. تم خطف طيارين تركيين في بيروت كما تم اعتقال سائقي شاحنات أتراك في مصر. كما أن الدعمَ التركي للرئيس المصري السابق محمد مرسي والإخوان المسلمين قد أغضبَ النظامَ العسكري الذي وصلَ به الأمر إلى إيقاف عرض المسلسلات التركية على التلفزيون المصري.
الأخطر من كل هذا هو أن تورط تركيا في دعم الطرف الذي يبدو خاسراً في الحرب الأهلية السورية الآن لم يأت عليها إلا بالكارثة. لم تكن تركيا مضطرة إلى إيصال الأمور إلى هذه النقطة: ففي بداية الانتفاضة السورية, كانت أنقرة في موقع يؤهلها من لعب دور معتدل في الأزمة, بما أنها كانت على علاقة جيدة بالرئيس بشار الأسد, كما أنها كانت قادرة على الضغط على المتمردين المسلحين الذين يعتمدون على فتح الحدود التركية- السورية (560 ميلاً). لكن رئيسَ الوزراء التركي, رجب طيب إيردوغان, بالغَ في لعب أوراقه, حيث افترضَ أن الأسد سوف يسقط بالسرعة التي سقط بها معمر القذافي في ليبيا, وقدم الدعمَ الكامل للمتمردين. وقد ارتكبت عدة حكومات أخرى الخطأ نفسَه, لكن فشلَ المتمردين المسلحين في إنجاز نصر حاسم شكلَ أكبر خطر على تركيا. فمهما كانت تركيا تعتقد أنها تفعل في سوريا, إلا أنها لم تنجح بمقاتليها الجهاديين وغير الجهاديين في سوريا, حيث أنهم خائفون من بعضهم البعض في هذه الأيام كما أنهم خائفون من حكومة الأسد. والسؤال الآن لا يتعلق برحيل الأسد كرئيس لسوريا بقدر ما هو مرتبط ببقاء المتمردين على المدى الطويل, إلا كمجموعات متفرقة من أسياد الحرب.
إن قدرة وصبرَ إردوغان وحزب العدالة والتنمية في السيطرة التدريجية على السلطة في تركيا خلال السنوات الإثنتي عشر الأخيرة يتناقضان تماماً مع فظاظة السياسة المتبعة في سوريا والعراق. وربما يكمن التفسير الأفضل في هذا الغرور البسيط النابع من انتصارات إردوغان الانتخابية في 2002 و 2007 و 2011, عندما نجحَ في المناورة على الجيش التركي الذي كان مناوئاً للحكومات التركية الإسلامية السابقة والمنتخبة ديمقراطياً. ولكن خارج الحدود التركية, خذلته غرائزه السياسية وأصبحَ سيدَ الحسابات الخاطئة, حيث ورط تركيا في حرب أهلية وحشية في سوريا وحرب شبه أهلية في العراق. حيث أصيبَ السياسيون العراقيون بالذهول نتيجة التدخلات التركية الفاضحة والعشوائية.
كان بمقدور تركيا أن تلعبَ دوراً بناءً من شأنه أن يعززَ نفوذها وينقذ حياة الكثير من الناس لو أنها اتخذت موقفاً حيادياً يمكنها من التوسط بين الأطراف المختلفة. وبدلاً من ذلك, فعلت العكس تماماً, حيث انضمت إلى ائتلاف القوى السنية الذي كان بعض أطرافه – مثل المملكة السعودية – طائفياً بشكل فاقع, مما أدى إلى عزل القوى الشيعية. وحتى ضمن هذا الائتلاف السني فإن تركيا معزولة بسبب دعمها للإخوان المسلمين في مصر, وهي تدفع الآن ثمناً اقتصادياً باهظاً. فقد تم قطع الطرق التجارية عبر العراق وسوريا, كما يقال إن الإمارات المتحدة قد ألغت استثماراً بقيمة 12.5 مليار دولار لاستخراج الفحم كان من شأنه أن يؤمنَ 4,000 فرصة عمل. إضافة إلى أن المستثمرين في دبي والكويت حذرون من التورط أكثر في تركيا.
إن سُمَ الكراهية الطائفية ينتشر ببطء إلى تركيا حيث يتعاطف 15 – 25 مليون علوي تركي مع علويي سوريا.
كان لإدانات إردوغان للحكومة التي يهيمن عليها العلويون في دمشق تداعيات على العلويين الأتراك الذين طالما تذمروا من التمييز ضدهم من قبل الدولة السنية التي تنكر عليهم حقوقهم الدينية الخاصة بهم. وأمام هذا التمييز طريق طويل قبل أن يتحولَ إلى شيء أقربَ غلى الطائفية الدموية القائمة في العراق وسوريا الآن. لكن إمكانيات الانفجار تتنامى بشكل متواصل, وحالما يبدأ العنف سيكون من الصعب إيقافه لأن الحربَ الأهلية السورية تضفي بُعداً كارثياً على التباينات السياسية التركية العميقة الأخرى.
بغض النظر عما يمكن أن يحدث, فإن فرصة تركيا في الشرق الأوسط قد تبددت بسرعة غريبة ويمكن أن تكونَ إحدى أكبر الفرص الضائعة في التاريخ الإقليمي. فالفصاحة العثمانية الجديدة, إضافة إلى نسيان الكراهية الكبيرة للإمبراطورية العثمانية القديمة من قبل محكوميها, تبدو الآن ضرباً من الوهم. ويمكن للأمر أن يزدادَ سوأ. فالعلاقات مع إيران تتحسن قليلاً, ولكن في حال تدهورها مرة أخرى سيكون لدى إيران حافز لتقويض أي تفاهم بين الحكومة التركية وأكراد تركيا. سوف يكشف إيردوغان هذا الأسبوع عن التنازلات التي يرغب في تقديمها للعلويين والأكراد, والتي لن تلبي طموحاتهم ولكن يمكن أن تكونَ كافية لكي تجعلهم يشعرون أنهم يحرزون تقدماً في الحصول على حقوقهم المدنية الكاملة.
إن تورط إيردوغان في المستنقع السياسي الطائفي الممتد بين إيران والمتوسط يذكرني بمغامرات طوني بلير الفاشلة في الشرق الأوسط. فعلى غرار إردوغان, كان بلير سياسياً ناجحاً داخل بلاده نتيجة غرائزه السياسية القوية, وعلى غرار رئيس الوزراء التركي أيضاً, فاز بثلاثة انتخابات متتالية. كما كان معتاداً على التعامل مع قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولكن في العراق ولبنان فقدَ حكمته وتبعَ غرورَه.
إن الصورة التي يقدمها بلير في سيرته الذاتية للعراق بعد الغزو تنطوي على جهل مطلق بما كان يحدث هناك. فالقاعدة وإيران تظهران بشكل مفاجىء وكأنهما كائنان فضائيان قدما من كوكب مجاور بهدف العرقلة والتخريب. وبنفس الطريقة يبدو إردوغان مندهشاً من الفشل الذريع لمغامرته في الشرق الأوسط.
*كاونتر بنتش –
9/5/13104
https://telegram.me/buratha