بقلم : محمد ابو النواعير ..
لابد لي في بادئ الأمر من ذكر قضية مهمة جدا , وهي إن السياسة المعاصرة بمضامينها النظرية والعملية قد أصابها الشيء الكثير من التغيير والتحوير والتطوير , فأصبحت أوسع منهاجا , واكبر تأثيرا , وأكثر تدخلا في حياة الناس , بل وأنها قد تحولت الى ضرورة من ضرورات الحياة المُلِحَّة التي لاغنى لأي شعب من الشعوب من تقديم ثلة ممن يمتلكون الأهلية القيادية للخوض في ميادينها .. وأيضا أصبحت السياسة كإحدى أكثر الممارسات الإنسانية تعقيدا وتشابكا , إذ تلتحم وتتناغم في الفعل السياسي كل مكونات وأبعاد الواقع الإنساني . ففيها يندغم الواقع بالوهم , والوعي باللاوعي , والمعطى العيني بالمتخيل , مثلما تتظافر فيها كل أبعاد وعناصر الواقع الإنساني النفسية والاقتصادية والاجتماعية واللغوية في وجهها الواقعي والمثالي ..
وعلى الرغم من تطور أنظمة الحكم , وانتشار الوعي الثقافي والسياسي ولو بشكل نسبي بين أغلب أشكال العناصر البشرية في أغلب الدول , إلا أننا لا زلنا نشهد توترا جوهريا لا زال قائما ما بين مفهوم الانضباط بنمطية الحكم السلطوي داخل الدولة , وما بين المطالبة المستمرة بعدالة الإنسان المجسدة في معايير حقوق الإنسان , وما سطرته الشرائع السماوية السمحاء من تثبيت لهذه الحقوق .. إضافة الى تأثير عوامل التطبيع الإتفاقي للمفاهيم المجتمعية , أدى وبشكل واضح إلى بروز إعتقادات دوغمائية (يقينية) عند فئات المجتمع , تقنعهم بصحة أمر خاطئ , فأغلب الناس في مجتمعنا العراقي مثلا , يعتقدون أنهم يمتلكون وعيا سياسيا , بل ويفتخرون بأنهم (واعون) , وإنه ليس من السهل القيام بتضليلهم , بل ويعتقدون أنهم يعرفون خلفيات الأشياء السياسية , ويقرأون المضامين الكامنة والبعيدة لكل من الخطاب والفعل السياسيين .
ومع الأسف , تعد هذه المشكلة من أهم المشاكل وأعقدها التي عرقلت تقدم العملية السياسية , بل ومكنت أدعياء السياسة من تسلق أهرامات المواقع المؤثرة على حياة الناس ومصائرهم .. المشكلة وببساطه تتعلق بوجود عملية خلط غير منتظمة في الوعي المجتمعي , تربط ربطا عشوائيا ما بين الأخلاق والدين من جهة , وما بين السياسة كنظرية وكتطبيق من جهة أخرى .. بينما نجد أن الفهم الغربي الحديث لعلاقة السياسة بالأخلاق إنما يقوم على الفصل بينهما فصلا واضحا , فالسياسة في نظرهم هي بالمقام الأول : مجال الصراع حول المكاسب والمصالح الفردية والجماعية , لدرجة أنه يبدو مع هذا الاتجاه أن مقولة مثل " المبادئ السياسية " ستكون عبارة عن مفهوم متناقض الحدود , كأن نقول مثلا : الدائرة المربعة .
إسقاط هذا المفهوم الشمولي في ذهنية المواطن العراقي مع الأسف قاده إلى اعتبار أن كل الفاعلين السياسيين كائنات متسيبة أخلاقيا , وأنهم وحوش كاسره بدون رادع , إلى غير ذلك من النعوت التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا التصور . إلا أنه وممن الضروري التمييز إبستمولوجيا بين : أخلاقيات الفاعل السياسي , وأخلاقيات المجال ..
فالفاعل يعتقد - على الأقل على مستوى وعيه الواضح - بأنه أخلاقي وملتزم بالقيم والمعايير الأخلاقية , وبأنه لا يحيد عنها , ويفرز لنفسه ما يكفي من التسويغات والتبريرات الذاتية المستمدة من الثقافة أو الدين أو الآديولوجيا ليبرئ ساحته , ويعلن بأنه متطابق مع نفسه وملتزم بالقيم الأخلاقية في كل لحظات أدائه السياسي .
ولا يغيب عنا أن أخلاقيات الفاعل السياسي لا تجري في فراغ , بل هي تشتغل داخل المجال السياسي الذي تحكمه بدوره أخلاقيات معينه هي ما يطلق عليها أخلاقيات المجال , والتي هي أقرب ما تكون الى مفهوم : قواعد اللعبة السياسية , والتي تنحصر تعريفيا : بمجموعة الضوابط القانونية والمؤسسية التي تؤطر الممارسة السياسية الحديثة .
كل ما ذُكٍرَ أعلاه إنما يمثل في جوهره مشكله معرفية في مفهوم السياسة وعمل رجل السياسة , تبلورت مع مؤثرات المحيط الحدثي اليومي المعاش , حيث أدى إلى تكوين يقينيات راسخة بأشكالها العمومية والشمولية في الحكم المتسرع تجاه القائمين على الممارسة السياسية في العراق .. النموذج الذي أريد أن أضرب به هذه الصورة النمطية القاتمة التي زرعت في الذهن العام , هي نمطية رجل السياسة الذي نجح في تأصيل الأخلاق كقانون ممنهج يصار الى تطبيقه من خلال خلق عملية الوعي السياسي الصحيح عند الجمهور , هذا الوعي المتكون تدريجيا , سيكون هو أداة الضغط الحاسمة التي يعول من خلالها ضرب النمطيات اللاأخلاقة في الممارسة السياسية في العراق ..
واقرب مثال توضيحي لحالة ممارسة الأخلاق ك(قانون) ملزم تطبيقه على فئة القائمين على الممارسة السياسية , هو السيد عمار الحكيم .. فعلى الرغم من إرتدائه العمة , والتي هي في جانب منها تمثل مفهوم الأخلاق الدينية التي يراد إسقاطها على قواعد اللعبة السياسية , إلا أننا نجد أن الحكيم وظف مفهوم القانون كآلية لتصدير المفاهيم الأخلاقية والشرعية بإطارها السياسي الممارساتي , فهو هنا لم يفرض الأخلاق على السياسة بإعتبارها موظوعا مستقلا يراد له الدمج والتهجين , بل أراد ومن خلال كل ممارساته وتحركاته السياسية -سواء ما كان منها على الجانب التنظيري التوعوي , أو ما كان منها على الجانب التطبيقي العملي - أن يؤسس لإنضباط قانوني (أخلاقي) داخل هيكلية العمل السياسي القائم في جوهره على الحتميات القانونية ..
وما يشهد لنا فيما ذهبنا إليه هو الحراك السياسي الأخلاقي , والدعوات السياسية (الأخلاقية) التي تميز بها خطابه التوعوي وممارساته وردات فعله السياسية في المواقف التي يفترض أن يحذو فيها حذو الآخرين , إلا أنه كان يفاجأ الجمهور بأدبيات ممارسة سياسية لم تألفها الخزينة الثقافية التأريخيه التي تملكها ذاكرة الشعب العراقي ..
لا أنكر أن ردات الفعل الشعبية تجاه الممارسة السياسية ( الأخلاقية ) للسيد الحكيم , قد نحت في أغلبها منحى الإستغراب , أو فلنقل منحى الإرتباك الفكري الناتج عن تغير مفاجأ عن ما هو معهود من مفهوم العمل السياسي , وعما هو معروف من أفعال رجال السياسة .. إلا أن سلبيات هذا الإرتباك قد بدأت تضمحل شيئا فشيئا , إذ أن الضربات المعرفية التوعوية المتلاحقة التي وجهها الحكيم الى الوعي الجماهيري بدأت تؤتي أكلها في بزوغ الحالة النقدية الصارخة في الخطاب الذي يصدره الجمهور تجاه رجال السياسة ... وحقيقة الأمر أن منهجية الحكيم وأسلوبه في تصدير المعرفة السياسية الى الجمهور قد أدهشتني كثيرا , بحيث لا يسعني إلا أن أقول له وكلي يقين بما أقول : لعبتها صح سيدنا ...
محمد أبو النواعير - ماجستير فكر سياسي أمريكي معاصر - باحث مهتم بالآديولوجيات السياسيه المعاصره - العراق - النجف الأشرف ..
https://telegram.me/buratha