من الذي يدير السياسة الخارجية السعودية؟ والى اين يأخذ البعض المملكة في خضم التحولات الكبرى التي يعبر عنها التراجع الاميركي والصمود الايراني ـ السوري والتقدم الروسي والصيني؟ هذا السؤال المركب الذي تتفرع منه أسئلة كثيرة هو مجال النقاش الأساسي حتى اشعار آخر، في ظل ظاهرة غريبة على عالم السياسة الحديثة تقدمها السعودية التي قررت فجأة الاطلالة بوجه جديد باختلاف مئة وثمانين درجة عن الوجه السابق.المملكة التي كانت تمارس سياسة الصمت والعمل خلف الكواليس والاختباء وراء الدول الصديقة انخرطت بصورة غير مسبوقة في الحرب السوريّة بكل الأساليب، وآخرها استعدادها لتمويل الحرب التي هددت واشنطن بشنها ضد دمشق بعد ان اخفق مدير استخباراتها بندر بن سلطان في تحقيق نتائج ميدانية ملموسة عقب توليه مباشرة المسؤولية الميدانية لجزء لا بأس به من المجموعات السورية وغير السورية المسلحة.
التراجع الاميركي عن ضرب سوريا افقد السعودية صوابها
انسحب الاخفاق على المملكة برمتها فعبرت عن رفضها للتراجع الاميركي عن توجيه ضربة ولو محدودة لسوريا وجاهرت باستيائها من الموافقة الأميركية السريعة على المبادرة الروسية للتخلص من السلاح الكيميائي السوري تصريحاً وتلميحاً، قبل أن تقرر الامتناع عن التحدث أمام الجمعية العامة للامم المتحدة في دورتها السنوية أواخر ايلول/سبتمبر الماضي احتجاجا على هذا السلوك الاميركي.
طبعا احصاء الخسائر السعودية كان عملية شاقة على بعض مسؤولي المملكة ممن فجعوا بهذا التراجع الأميركي، الى حد ان الضربة بدل أن تكون لسوريا صارت للسعودية!. وما عزز هذا الاستنتاج هو الهرولة الأميركية تجاه ايران والتي انتهت بمكالمة هاتفية من الرئيس باراك اوباما مع الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني، مسبوقا بخطاب أميركي لم يعد يجد حرجا في الاعتراف بحق ايران في امتلاك الطاقة النووية المدنية. ويبدو هنا أن هذا السلوك الأميركي وقع كالصاعقة على سياسيي المملكة التي لم تجد وسيلة للتعبير عن غضبها سوى رفضها تولي مقعد مجلس الأمن لمدة سنتين كممثلة للدول العربية في المجموعة الاسيوية، وذلك بعدما انفقت من المال لسنوات ـ كما قالت بعض المصادر الصحفية ـ للحصول على هذا المقعد مستدلين على ذلك بمحاولتها السابقة شراء المقعد العربي من لبنان قبل سنوات! كما جاء هذا التراجع بعد سنوات من تدريب طاقم مختص من وزارة الخارجية السعودية لإدارة هذه المهمة. لكن ماذا حصدت المملكة من هذا القرار؟ مزيداً من الخيبة. هذه هي النتيجة باختصار. فاذا كانت الرياض تقصد توجيه رسالة قاسية الى واشنطن فإن رد فعل الأخيرة غير المكترثة على السلوك السعودي واعتباره شأنا خاصا بالمملكة كان بمثابة صفعة اميركية جديدة للسعودية تضاف الى صفعتين سابقتين: الاولى عندما تكلم السفير الاميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان بكلام قاس حول السلوك السياسي لقيادة المملكة في مجالس خاصة نشرت محاضرها بعض وسائل الاعلام العربية، والصفعة الثانية عندما تبين ان واشنطن بدأت تهيئ المسرح البحريني لتسوية سياسية ترضي طهران وتخرج القوات السعودية من تلك الجزيرة، وتحقق للمعارضة البحرينية جزءا اساسيا من مطالبها.
ـ في بداية شهر أكتوبر تحدثت القناة الثانية الإسرائيلية عن لقاء سري عُقد في "إسرائيل" بين بنيامين نتنياهو ومسؤول كبير من دول الخليج
اما موسكو التي كانت عين الرياض عليها بسبب فيتوهاتها في مجلس الأمن لحماية النظام السوري، فإن تعليقها كان اشبه باتهام للمملكة بأنها لا ترغب بالعمل الجماعي لحفظ السلم والأمن الدوليين. لكن النكسة الأخرى التي أظهرت اعراض الولايات المتحدة والقوى المؤثرة تمثلت بالاستعدادات الجارية لعقد مؤتمر جنيف اثنين الشهر المقبل في موعد اولي لم يحسم بعد نهائيا، ولكن ربما يكون الثالث والعشرين من تشرين الثاني القادم. وهذا التحديد الاولي للموعد والجولة التي باشرها المبعوث الأممي والعربي الاخضر الابراهيمي الى العواصم المعنية بما فيها ايران، يشكل فاجعة للرياض التي تدفع باتجاه إعاقة عقد المؤتمر باعتبار انه يكرس أحادية الحل السياسي وإطلاق رصاصة الرحمة على الحل العسكري، وهو خيار أظهرت الرياض عدم جدارتها في ادارته لا ميدانيا ولا ديبلوماسيا على مستوى اقناع الحلفاء به. لكن الخيبة ستكون اكبر عندما يقول الابراهيمي عن المعارضة السورية انها "تواجه مشاكل كثيرة"، ولا يخفى على أحد ان امساك بندر بملف المعارضة السوريّة ساهم بشكل رئيس في تفككها لا سيما بعدما ذهبت المملكة بعيدا في الحرب على نظام الاخوان المسلمين في مصر، وهم مكون رئيس في المعارضة السورية.
الدبلوماسية السعودية ..اخفاقات وصفعات متعددة
بناءً على ما تقدم يمكن القول ان الرياض كانت تتحدث مع نفسها عندما ألغت كلمتها امام الجمعية العامة للامم المتحدة وعندما رفضت تولي المقعد غير الدائم في مجلس الامن، وكأن احداً لم يسمع صراخها، سوى الموظف العربي الاول نبيل العربي وايضا الصديق الفرنسي الخائب من السياسة الاميركية. لكن السؤال هو على ماذا تراهن المملكة في اصرارها على اسقاط النظام السوري بعدما اعلنت واشنطن رسميا عجزها عن ذلك؟ ولماذا تصر على استمرار توتر علاقاتها مع طهران ما دام ان واشنطن اعلنت ايضا عجزها عن معالجة عسكرية للبرنامج النووي الايراني وأبدت استعدادها لفتح بازار سياسي لحل المشكلات العالقة في اكثر من منطقة وبلد؟كان بامكان المملكة ان تتلقف الدعوات الايرانية المستمرة لفتح صفحة جديدة وادارة شؤون المنطقة وفق ثنائية عربية اسلامية ادرى بشعاب المنطقة من الاميركيين والاوروبيين، خصوصا بعدما أبدى الاخيرون عجزهم وباتوا يظهرون رغبتهم في التعامل مع ايران وتقليص مساحة الاشتباك معها. وهذا ايضا من السلوكيات غير المفهومة الا بتفسير واحد مفاده ان لا استراتيجية تحكم الادارة السعودية، انما تبنى على الانطباعات الشخصية والاراء الفردية، ومن شأن هذا النمط الاداري ان يودي بالمملكة الى مآلات صعبة، وخيارات مأساوية مثل ذلك الذي يروج له الاسرائيليون وبعض المصادر الصحفية الغربية من ان هناك توجها لاقامة تحالف خليجي ـ اسرائيلي لكبح جماح الرغبة الاميركية بفتح قنوات اتصال مع ايران ولاعادة الاعتبار للخيارات العسكرية، وهو ما اشار اليه مؤخراً الباحث الاميركي روبرت فري في مقالة نشرها في موقع "ميدل ايست أون لاين"، مشيرا إلى أن مثل هذا التعاون سيؤدي إلى "التشويش" على الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي سرده للاشارات التي تدل على التقارب بين السعودية و"إسرائيل"، يذكر فري انه "في بداية شهر أكتوبر تحدثت القناة الثانية الإسرائيلية عن لقاء سري عُقد في "إسرائيل" بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومسؤول كبير من دول الخليج، ويبدو أن الحديث هنا يدور عن الأمير بندر بن سلطان". كما يلفت الى انه قبل يوم واحد من هذا التسريب الإعلامي حول اللقاء، تحدث نتنياهو عن تلك العلاقات الناشئة وذلك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما قال: "الخطر الذي تمثله إيران نووية وظهور تهديدات أخرى في المنطقة دفع ببعض جيراننا العرب إلى الاعتراف بأن "إسرائيل" ليست عدوًا". وبمعزل عن صحة هذه المعلومات فإن تذرع المملكة بعدم حل القضية الفلسطينية طيلة 65 عاما وازدواجية المعايير لا يستقيم والتاريخ الطويل للعلاقات بين واشنطن والرياض والتي لم تستغلها المملكة لتحسين شروط لا المقاوم الفلسطيني ولا حتى المفاوض الفلسطيني، فضلا عن ان هذا التذرع يسقط امام ما يقال اسرائيليا وغربيا عن تقارب سعودي ـ اسرائيلي.
بندر .. اخفاقات ميدانية
تبقى ملاحظة اخيرة أنه اذا كان قرار مثل رفض مقعد مجلس الأمن لا يمكن ان يصدر الا عن شخص مثل الملك عبد الله او ولي عهده الامير سلمان كما نقلت وكالة رويترز عن محلل سعودي طلب عدم نشر اسمه، فان السؤال يتمحور حول انعكاسات هذا الامر على الصراع القائم حول السلطة داخل المملكة. فاذا كانت النتائج السوريّة السلبية قيدت في حسابات بندر بن سلطان، والنتائج السلبية الديبوماسية قيدت في حسابات وزير الخارجية سعود الفيصل، فهل سيؤدي ذلك الى تجيير هذه الاخفاقات الى اولاد الملك عبدالله ويلتقطون الفرصة لكي يحدثوا انعطافة ما في السلوك السعودي ويقدموا مقاربة مختلفة تتجاوب مع متطلبات التسويات الدولية التي يجري الحديث عنها ويحجزوا حصة ما للمملكة في عالم لا يتعامل الا مع الأقوياء، بدل ان يصرخ بندر بن سلطان وسعود الفيصل في صحراء خالية لا يسمعهما في ربعها الخالي احد.
21/5/131023/ تحرير علي عبد سلمان