لعلّ من اعظم الخدمات التي قدّمها أئمة اهل البيت عليهم السلام للمسلمين وللبشرية عامة، هو انهم بذلوا جهدا عظيما للفصل بين دين السلطة الذي يسخّره الحاكم لإضفاء الشرعية على سلطانه، خاصة الظالمين منهم، وبين سلطة الدين التي بعثها الله تعالى رحمةً بعباده، لينعموا بحياة فارهة كما قال تعالى {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} سواء كانت هذه الجهود من خلال سلطة العدل، كما هو الحال بالنسبة مع أمير المؤمنين (ع) او من خلال الفكر السليم والثقافة الصحيحة التي تستند على الحوار بالمنطق والحجة العقلية والنقلية كما هو الحال بشكل خاص مع الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، والذي تصادف ذكرى استشهاده في ( شوال) ( الجمعة آب).
لقد سخّر الطغاة نظرية (التفويض الإلهي) لتحقيق أمرين، الاول؛ هو تكريس سلطتهم الدينية لتخدير الناس وبالتالي لسوقهم الى حروبهم العبثية وملذاتهم الدنيوية كالخراف، والثاني؛ لإسكات اي صوت معارض قد يحتج على سلطتهم الظالمة وممارساتهم المنحرفة.
فمثلا، عندما نزا على السلطة باسم الدين (الخليفة) المنصور، وكان ذلك في عهد الامام الصادق (ع) خطب بالناس يوم عرفة قائلا (أيها الناس، إنما انا سلطان الله في ارضه، اسوسكم بتوفيقه وتسديده، وانا خازنه على فيئه، اعمل بمشيئته، واقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلاً، اذا شاء ان يفتحني لأعطِياتِكم وقسمِ فيئكم فتحني) تخيل!!! فهو قُفْلُ الله تعالى.
وتتضاعف المشكلة عندما يتصور بعض (علماء الدين) انهم كذلك يحملون تفويضا من الله تعالى فهم ظلّه في ارضه، يتصرفون بالناس وأرواحهم وأموالهم وأعراضهم كيف يشاؤون، لان تصرّفهم هو تصرّف الله تعالى مباشرة وبلا واسطة، ولعل ما سمعناه ونسمعه من وعّاظ السلاطين وفقهاء البلاط المملوكين لنظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية وقطر تحديدا، وكذلك ما سمِعناه من أمير الفاحشين والفاسقين في الموصل، دليل على ذلك، وهو في حقيقة الامر نموذج تاريخي متّبع منذ ان ابتعدت الأمة عن المصدر النقي والصافي للدين واقصد به أئمة اهل البيت (ع) والذين لم تجد في تاريخهم ابدا ومطلقا اي معنى لهذا المفهوم سواء كانوا في السلطة، كما هو حال أمير المؤمنين (ع) او خارجها متصدين لكل انواع الانحراف، خاصة الفكري والعقائدي كما هو الحال بالنسبة الى الامام جعفر الصادق (ع) الذي يُنسب اليه التشيع كونه من اكثر الأئمة الذين خدمتهم الظروف السياسية والأمنية فضلا عن طول عمره قياسا بأعمار بقية أئمة اهل البيت (ع) للتنظير وتوضيح وتفسير وتحديد معالم مدرسة اهل البيت (ع) والتي يستند منهجها على النهج القرآني في فهم سلطة الدين، والذي يستند بدوره على الأسس والمبادئ الاستراتيجية التالية:
اولا؛ حرية الدين والعقيدة والمعتقد، فقال تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وقال تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وقال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
ثانيا: انّ مهمة الرسل والأنبياء تنحصر في التبليغ، فليس لهم سلطان على الناس اذا رفضوا رسالتهم، اما حسابهم فعند الله تعالى يوم القيامة، فقال تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ* وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ولذلك لا يحقّ لاحدٍ ابدا ان يفرض رأيا على الناس او يجبرهم على شيء او يكرههم على امر، فقال تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} وقال تعالى {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}.
تأسيسا على هذا الفهم القراني، يمكن القول ان ايّة سلطة تفرض نفسها بالقوة والإكراه والغزو والغارات والإرهاب، لهي سلطة ظالمة مهما تلفّعت بلباس الدين وحاولت ان تتستّر بدين السلطة، وبذلك فلا حاجة لنا لإثبات ما اذا كان الارهابيون وبمختلف أسمائهم ومسمياتهم وانتماءاتهم وتنظيماتهم ومصادر تمويلهم، يمثلون الدين ام لا؟ ابدا لانهم خارجون عن خط سيره العام الذي يعتمد المبادئ التي ذكرتها للتو.
انهم يمتطون الدين لتحقيق أهداف خسيسة ودنيئة، وهم يرفعون رايته لتضليل الرأي العام ليس الا، واذا كانوا يشرعنون جرائمهم وأفعالهم الشنيعة، فليس بالفهم القراني ابدا، وإنما بتفاسير السلطات الظالمة التي تعاقبت على الحكم في تاريخ المسلمين، والذين كانوا يسخّرون الفقه السلطوي لإيجاد المخرج (الشرعي) المطلوب لكل أزمة (دينية) يمر بها الحكم.
https://telegram.me/buratha