لا احد يختلف او يناقش في حقيقة ان ظاهرة الميليشيات تتناقض تناقضا كليا مع مفهوم الدولة العصرية، فهي ظاهرة تدلّ على انهيار مؤسسات الدولة او انها دولة فاشلة وغير قادرة على حماية شعبها ولذلك يلجأ الناس الى تشكيل الميليشيات لحماية انفسهم.
أنهما مفهومان متناقضان بكل المعايير، ولذلك ينبغي على الدولة العراقية بكل مؤسساتها الدستورية ان تبني نفسها بسرعة لتقضي على ظاهرة انتشار الميليشيات بشكل نهائي لانها تشكل خطرا كبيرا وعظيما على العملية السياسية والنظام الديمقراطي حديث العهد في العراق الجديد.
كل هذا صحيح ولا يجادل فيه عاقل، إنما الذي يثير الاستغراب حقاً هو تحليل البعض لنوع من الميليشيات وتحريم اخرى وكأن الظاهرة على نوعين، نوع حلال ونوع حرام!.
وقبل ان ألج في الموضوع ينبغي التنبيه الى حقيقة في غاية الأهمية يحاول البعض أغماض عينه عنها او ربما حتى توظيف ما يناقضها في الدعايات الطائفية الممجوجة، وهي:
ان الحشد الشعبي الذي شكلته فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرتها المرجعية الدينية العليا، لم يكن حشدا منفلتاً ابدا، إنما هو حشد منضبط حرصت المرجعية منذ لحظة انطلاقته على ان يكون في إطار المؤسسات الأمنية الدستورية والقانونية، ولذلك فان كل تعبئة عسكرية شعبية لا تستظل بالقانون فهي تعبئة مرفوضة شرعا بنظر المرجعية الدينية، فضلا عن انها غير دستورية وغير قانونية.
هذا من جانب، ومن جانب اخر، فان هذا الحشد الشعبي ما كان ليتشكل لولا الهجمة الإرهابية الشرسة التي تعرض لها العراق (فجأة) والتي تمددت بين ليلة وضحاها لتحتل مساحات شاسعة من الاراضي العراقية، شملت الموصل وغيرها من كبرى المدن العراقية، لتقف عند بوابة العاصمة بغداد وهي تهدد النجف الاشرف وكربلاء المقدسة.
وما كان لهذا الحشد ان يتشكل لولا الانهيار المرعب الذي أصاب القوات المسلحة العراقية امام الهجمة الإرهابية، ولذلك يمكن اعتبار ان فتوى الجهاد جاءت لتقف امام الانهيار الشامل الذي كاد ان يصيب العراق برمته، فالحشد، بهذه الظروف الأمنية، يشبه اي حشد شعبي آخر تلجأ اليه الدول والأنظمة التي تتعرض الى ما تعرض له العراق، كما حصل مثلا في فرنسا وبريطانيا وغيرها من دول أوربا إبان الحرب العالمية الثانية، او كما حصل في الجمهورية الاسلامية في ايران ايام حرب الطاغية الذليل صدام حسين على الثورة الفتية، او أي حشد شعبي اخر تلجأ اليه حتى أعرق الديمقراطيات في هذا العالم.
ان الدفاع عن النفس والعرض والأرض حق مكفول وبكل الطرق الممكنة وغير الممكنة، فعندما تفشل الدولة في حماية شعبها من الارهاب مثلا فان من حق الناس ان تحمي نفسها بلا حدود ولا لوم عليهم ابدا. ولقد تشكل الحشد الشعبي في إطار هذا المفهوم الذي فرضه الواقع المر، وهو لحماية العراق، كل العراق، من الارهاب، وينافق من يَسِمُه بغير حقيقته، انه حشد وطني بكل المقاييس.
لقد وقف العراق برمته امام مفترق طرق، فامّا ان يظل العراقيون يتفرجون على الانهيار الأمني وهم يرون بأم أعينهم كيف يتمدد الارهاب ويستوطن في مدن وبلدات واسعة وفي ظل تأييد ودعم قوى (سياسية) واجتماعية وعشائرية كثيرة، بدت الامور وكأنها توظف الميليشيات الإرهابية في (حراكها) السياسي في بغداد مع بقية الشركاء في العملية السياسية! او ان يلجأ العراقيون الى تحشيد قواهم وتسليحها دفاعا عن النفس والعرض والمقدسات الى جانب الدفاع عن العملية السياسية.
طبعا، ما كان منهم الا ان يختاروا الطريق الثاني فهو خيار العقلاء ومن يمتلك ذرة غيرة، ولو انهم اختاروا غير ذلك لكان دليل على انعدام كل القيم والمبادئ عند العراقيين، وهل يُعقل ذلك؟.
لقد ابتلي العراق بظاهرة انتشار الميليشيات منذ أمد بعيد، فبينما كان نظام الطاغية الذليل يحكم قبضته على البلاد بالحديد والنار مسخّرا القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بمختلف أسمائها ومسمياتها، مع ذلك تراه شكل عدد كبير من الميليشيات التي كانت تنشر الرعب والخوف في المجتمع، وبأسماء ومسميات عديدة مثل (فدائيو صدام) وأخواتها.
ومنذ سقوط الصنم ولحد الان لم يخلُ العراق من الظاهرة الى جانب الفشل الأمني الذريع الذي منيت به المؤسسة والمنظومة الأمنية، الامر الذي دعا كل العراقيين الى المطالبة بمنحهم الفرصة القانونية للدفاع عن النفس من خلال تشكيل الأفواج الخاصة القادرة على حماية البلدات والمكونات، ولقد جاء قرار تشكيل الصحوات (السنيّة) في المحافظات الغربية تحديدا في هذا الإطار من دون ان يستشكل عليها احدٌ قانونيا بل طالب بدمجها في المؤسسة العسكرية، فلماذا يهرّج هؤلاء على الحشد الشعبي الذي تشكّل ربما لنفس الدوافع والأسباب التي تشكلت في أجوائها الصحوات؟.
واليوم، الم تستعن القيادة الكردية في الإقليم بالحشد الشعبي بالاضافة الى استعانتها بواشنطن بل وبكل المجتمع الدولي للدفاع عن حدود كردستان؟ لا شك ان ذلك من حقهم ولا يحق لاحد ان يعترض عليه، بعد ان اتضح للجميع بان الحشد الشعبي هو الطريق الوحيد لمواجهة الميليشيات الإرهابية المدعومة من (حشد شعبي) ولكن من نوع آخر.
ولو أتيحت الفرصة للايزديين والمسيحيين والشبك وغيرهم لتشكيل الحشد الشعبي لمواجهة الارهاب وعصاباته وميليشياته، هل كان سيجرؤ احد على لومهم؟ بدلا من كل هذه المآسي التي مرّت عليهم ليتركوا ارض أجدادهم ويهيمون على وجوههم في الوديان والسهول وعلى قمم الجبال في منظر حزين ملأ قلوب الأحرار دماً؟.
https://telegram.me/buratha