يعوز تحليل النص الشعري طائفة من المسائل والمباحث تحدد ملامح فهمه والتوصل إلى مغزاه وترسم معالم هذا الكائن الذي يكتنز في داخله روح المعنى المتجذرة في أحشاء النتاج الشعري, التي تظهر بخطوات عدة تفهم من الفكرة المهيمنة والخيال الشعري الذي يُظهر لوحات ثلاث، فضلا عن لغة النص بمستوياتها الصوتي والصرفي والتركيبي للوصول إلى ثمرة القصيدة.
إذ تتمحور القصائد حول طائفة من الأفكار تنساب في الكائن الشعري محملة إياه فكرة رئيسة تقوم عليها البنية العميقة للنص وتوظف لها جلّ الأدوات الشكلية والمضمونية وما تثيره المصطلحات النقدية كأفق التوقع وشفرات الخطاب النصي والبنى الأسلوبية وغيرها مما يدعم هذه الفكرة ويقوي أساساتها في بناء مشيد يحيط بأهدافه؛ ويضاف إلى هذه الفكرة الرئيسة أفكارا ثانوية أخرى تتنوع بتنوع احتياجات الملقي والمتلقي, وهذا التنوع عرفت به القصيدة العربية منذ عصرها الجاهلي حتى العصور المتأخرة, وعصر المتنبي واحد من هذه العصور التي نسج شعراؤها قصائدهم فضمّنوها أفكارا وموضوعات متعددة كالغزل والطلل والخمريات والمديح والهجاء والفخر وغيرها من الأغراض التي عرفها الشعر العربي.
وليست قصائد المتنبي ببعيدة عن هذا التنوع فهو يقول للفخر ومعه يذكر العتاب أو المديح, أو أنه يأتي بالمديح ثم يرفد بوصف الطبيعة أو غير ذلك من التنوع الذي فرضته البيئة بتنوعها وتنقله فيها, فضلا عن البدائية التي ورثت عن الشعر القديم.
لذا فالتنوع في الأفكار وتعدد الأغراض في القصيدة حتى العصر العباسي هو أمر طبيعي, ولا يكاد شاعر يخرج عن الأفكار الفسيفسائية التي تتعاور على القصيدة، ولكن الأمر مختلف هذه المرة في قصيدة "على قدر أهل العزم" التي حشد الشاعر لها طاقاته الفكرية واللغوية ووظفها في خدمة مدح سيف الدولة الحمداني, والقصيدة على كثرة أبياتها لم تغادر المديح لرجل ارتبط به الشاعر ارتباطا وثيقا حتى راح النقاد يصفون العلاقات القائمة بينهما بأنها من أعمق العلاقات الإنسانية في تاريخ الشعر.
وقد وظّف الشاعر جل طاقاته وطاقات القصيدة بفضائها لهذا الغرض الذي سخر له الفاعلية النفسية والفاعلية المعنوية بإنساق بنيوية ماج فيها الإيقاع راسما ملامح نتاج أدبي ظل يمور في أحشاء الأدب ليكون في مقدمة النصوص الخالدة, ويدل على ذلك تأجج ملامح الفروسية والقوة التي تتطور صعودا من بيت إلى آخر لتصنع فارسا شجاعا يستقر في مخيلة المتلقي ولا يغادرها, وحسب ذلك قوله في القصيدة:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
هل الحدث الحمراء تعرف لونها وتعلم أي الساقيين الغمائم
سقتها الغمائم الغر قبل نزوله فلما دنا منها سقتها الجماجم
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
وغيرها من الأبيات التي وردت في القصيدة وهي تحمل سمات المديح التي تلحظ جلية في صياغات اللغة بمستوياتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية التي تذكر في حينها وحسبنا منها ضمير المخاطب الكاف وكذلك التاء اللتان لحظتا في قوله "وقفت- كأنك- وجهك- ثغرك- تجاوزت- ضممت..." وغيرها مما يكثر وروده في هذا النص الشعري.
لذا فالقصيدة تحمل غرضا شعريا واحدا وتسيطر عليها فكرة مهيمنة واحدة ليس أكثر, والذي يطفو من هذه الفكرة هو عنوان المدح الذي ظل لصيقا بالقصيدة من أولها إلى آخرها, وهي فكرة ظاهرة على السطح في المعنى الأول؛ ولكن معنى المعنى الذي يظهر من تتبع شفرات النص يشير إلى دلالة ثانية قابعة خلف المعنى الظاهر تؤججها خلجات الشاعر وارهاصاته التي راحت تستنهض معاني البطولات العربية وأمجادها التي تظهرها الألفاظ تارة, وتارة أخرى تنساب من البنى المتحولة عن اللغة واستنباط المعاني في القصيدة ومنها قوله:
هنيئا لضرب الهام والمجد والعلى وراجيك والإسلام أنك سالم
ولم لايقي الرحمن حديك ما وقي وتفليقه هام العدى بك دائم
وخلاصة الفهم للفكرة هي كونها فكرة مهيمنة واحدة قائمة بذاتها لا تنصرها أفكار ثانوية, وظاهر هذه الفكرة وما جاءت له القصيدة وهدفها هو مدح سيف الدولة ولكن باطنها الماكث بتجذر هو التفاخر بالمجد العربي واستنطاق التوحد بين مكونات المجتمع الذي ظهر انفراط عقده في عهد المتنبي فتحول إلى دول تتقاسمها الأعاجم, وتحتوشها القوميات غير العربية كالرومية والفارسية والمماليك وغيرهم, مما دفع الشاعر إلى أن يجعل سيف الدولة رمزا للعروبة ووحدتها, وأن يصوره مظهرا من مظاهر قوتها وشجا
https://telegram.me/buratha