في مظهرٍ عظيمٍ من الانسجام والتّعايش، يمرُّ الأسبوعان والثلاثة على زوار سيد الشهداء الامام الحسين (ع) المشاركين في مسيرة الاربعين المليونية، ربّما لا تمرُّ على أحدٍ منهم مثلها في حياته أبداً. وما اجمل ان نستصحب هذه الظاهرة الاجتماعية معنا دائماً، لما تعطيه المسيرة من زخم كبير جداً بامكانه ان يساعدَ على تكريس هذا المبدأ في حياتنا مدّة من الزمن.
لقد خلق الله تعالى عباده ليتعايشوا فيما بينهم وليس ليتقاتلوا او يتنافروا او يتخاصموا او يتباعدوا، ولعل في ذلك فرقٌ جوهريٌّ بين الانسان والحيوان، فالأول كائن اجتماعي بطبعه والثاني ليس كذلك. واذا قرانا الاية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} بتمعّن ودقّة وبعقليّة منفتحة، فسنعرف كيف يمكننا تحقيق التعايش في الحياة.
فالآية لا تتحدث عن اتباع دين معين او اتباع حضارة معينة او حتى اتباع منطقة جغرافية معينة، انما تتحدّث عن الخَلْق بشكل عام، وهذا يعني:
ان التعايش المطلوب هو بين الناس كناس وليس كمسلمين او كعرب او ما الى ذلك. كما ان الاية تشير الى حقيقة التعددية، فهي حجر الأساس في التعايش. بمعنى آخر، فلانّ الله تعالى خلق الناس امماً وشعوباً واشكالاً وألواناً فقال عزّ من قائل {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} لذلك فان المبدأ الوحيد الذي يجمعهم كمجتمع او كأمة هو التعايش.
ولعلّ المجتمع العراقي، بما يمثل من تنوّع وتعدّد في كل شيء، انما هو من اكثر المجتمعات التي تحتاج الى ان تحقق التعايش والانسجام، اذ كلما تعدّد المجتمع اكثر وتنوع في تركيبته كلما احتاج الى التعايش اكثر فاكثر، على الرغم من ان الانسان الفرد لوحده كذلك يحتاج الى ان يتعايش، ربما مع الطبيعة والمناخ مثلا او ما أشبه اذا عاش في مجتمع غير تعددي.
ان الفرق بين المجتمعات الناجحة واُخرى الفاشلة يمكن قياسه بمدى التعايش وقدرتها على ذلك من عدمه، فلقد نُقل عن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول قوله مشيراً الى حجم التعددية والتنوّع في المجتمع الفرنسي (كيف يمكن لرئيس ان يحكم شعباً يمتلك نوعاً من الاجبان) فالشعب الفرنسي معروف عنه بتعدد أذواقه في الاجبان فما بالك بالاشياء الاخرى؟.
والان؛ كيف نحقق التعايش؟ ولماذا؟.
أولاً؛ يجب ان نلغي من قاموسنا كل انواع التعصّب والتطرّف الذي ينتج عبادة من دون الله، وعلى رأسها عبادة الشخصية التي تُنتج الأصنام، ونستبدلها بالتسامح والوسطية والعقلانية والاعتدال ومبدأ التنازلات المتبادلة، لانّ المتعصب لا يرى الا نفسه والمتطرف يسعى لالغاء الاخر، حتى اذا كان هذا الاخر ابنه او زوجته او أخاه او جيرانه او صديقه، فالتطرف والتعصب ليس له حدود وليس له خط نهاية، فلقد راينا البعض كيف يبدأ متعصباً او متطرفاً ضد الاخر المخالف في الدين او المذهب او الاثنية او ما أشبه لينتهي به الامر الى التعصب والتطرف ضد اقرب الناس اليه.
وتارةً يكون التطرف والتعصب لفكرة او راي او موقف وتارة اخرى يكون لشخص او عشيرة او حزب او زعيم او حتى لمرجع او رمز او ما أشبه، فليكن المبدأ هو الاعتدال والوسطية فإذا احببت أحِبُّ باعتدال واذا كرهت اكره باعتدال، فقد تتغير الظروف وتتبدل الامور، اذا بالعدو صديقاً وبالصديق عدواً، ولذلك اوصانا امير المؤمنين (ع) بهذا الصدد بقوله {أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا}.
كذلك على مستوى المواقف والاراء، فقد تضطر لتغيير بعضها او كلها بتغيّر الظروف، فإذا كنت متعصباً لها متطرفاً بازائها فستجد نفسك محرجاً لا تدري ماذا تفعل، فإذا غيّرت عجزت عن الحجة والدليل واذا تزمّتَّ واخذتك العزّة بالاثم كما يقولون، ضحكَ عليك الناس، وهو اليوم حال الكثيرين ممن تعصّبوا لـ (مختار العصر) والقائد الضرورة وتطرّفوا في الدفاع عنه، ليتواروا اليوم عن الأنظار خجلاً، فلا هم قادرون على تغيير مواقفهم لشدّة تعصّبهم فيما مضى من الايام، ولا هم قادرون على الدفاع عنه والتعصّب له بعد ان تبيّن لهم انه لم يكن لا مختار العصر ولا القائد الضرورة الذي اذا ما زُحزِحَ عن السلطة فستُفتح أبواب جهنم على العراقيين!.
ثانياً؛ اذا التزم الانسان الوسطيّة والعقلانيّة في آرائه ومواقفه وما يعتقد به في المتغيّرات من الحوادث الواقعة، عندها سيكون اقدر من غيره على التفاهم مع الآخرين، فالمعتدل يمكن ان يتحاور ويتناقش ويتجاذب الحديث مع الآخرين، حتى يصل الى تفاهمات معقولة، امّا المتعصب والمتطرف فليس بامكانه أبداً ان يتناقش ويتفاهم ربما حتى مع نفسه، لان المتعصّب لا يرى الأشياء الا بلونٍ واحدٍ فقط، اما المعتدل فيرى الأشياء بعدد ألوان الطيف الشمسي وما أجمله.
ثالثاً؛ واذا كان المرء قادرًا على الحوار والتفاهم مع الآخرين فسيكون قادرًا على التعايش معهم بأية صورة من الصور، لان الأساس المتين للتعايش هو الاحترام المتبادل الذي يبدو من الانسان عندما يكون قادرًا على الحوار، ولا يتحقق الاحترام المتبادل الا اذا كان المرءُ معتدلا في الرأي والطرح والولاء وليس متعصباً او متطرفاً، الامر الذي يحتاج الى ان يجعل الانسان من نفسه ميزاناً في علاقته مع الاخر، حتى اذا كان هذا الاخر زوجاً او زوجة او ابناً او أباً او اماً او صديقاً او قل ما شئت.
يقول امير المؤمنين (ع) يوصي ولده الامام الحسن السبط عليه السلام {يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ}.
رابعاً؛ اذا حققنا التعايش بالحوار والتفاهم القائم على أساس الاعتدال والوسطية وعدم التطرف والتزمّت، فسنحقق الانسجام المجتمعي الذي سيُنتج السّلم الأهلي (الاجتماعي).
وإنّما تورّطنا اليوم بالعنف والارهاب لأننا:
تعصّبنا وتزمّتنا فتقاطعنا وتدابرنا فتنافرنا وتخاصمنا فتقاتلنا وتذابحنا!.
https://telegram.me/buratha