انّ الملايين الزّاحِفة اليوم الى كربلاء، حيثُ مثوى الشهيد بن الشهيد، في مسيرة الاربعين، تحيي في كلّ خطوة ذكرى التضحية العظيمة التي اقدم عليها الامام الحسين بن علي السبط عليه السلام وأهل بيته واصحابه الميامين.
وانّ قيمة التضحية تأتي:
أولاً؛ عندما يَقدِمُ المرءُ على التضحية في زمن الخضوع والخنوع، فليس من الرّجولة بمكان او من الشجاعة بمكان ان تضحّي بشيء ما عندما ترى الكلّ يضحّي، فقد لا تكون تضحيتك هذه عن قناعة وإنما قد تُجبرُ عليها خجلاً او من اجل ان لا تشذّ عن الآخرين، اما المبادرة للتضحية في وقت لم يبادر اليها احدٌ لأي سبب من الأسباب، فتلك هي قيمة التضحية.
ولقد ضحّى الحسين (ع) عندما استكان الآخرون وخضعوا للحاكم الاموي الظالم إما خوفاً او طمعاً او هرباً من المسؤولية او لأي سبب كان.
ثانياً؛ عندما يختار المرء وقت التضحية ومكانها بنفسه فلا تُفرضُ عليه فرضاً او يُجبر عليها.
قيمة التضحية عندما تختار وقتها ونوعيتها بنفسك، فلا تضطرّ لها او تُجبر عليها، فستكون (مُجبرٌ اخاكَ لا بطلُ).
ولقد اختار الامام الحسين السبط (ع) التضحية بملء ارادته فلم يفرض عليه النظام الاموي شيئاً منها، وهكذا بقية شهداء كربلاء، فلقد كانت الظروف ملائمة لهم للهرب من التضحية والنجاة بأنفسهم، خاصة وان الامام أجاز لهم اكثر من مرة ان ينسحبوا من المعركة، فالقوم كانوا يطلبونه فلو طلبوه لاكتفَوا به دونهم، على حدِّ قول الامام عليه السلام، الا انّهم جميعاً اختاروا الشهادة بملء ارادتهم، فيما هرب منها او رفضها اخرون على الرغم من ان الامام دعاهم اليها.
ثالثاً؛ عندما يضحّي المرء من اجل المُثل العليا والقيم الرسالية، اذ كلما كان الهدف أسمى كلما زادت قيمة التضحية، والعكس هو الصحيح، ولذلك ترى الانسانية تميل بفطرتها لتخليد التضحية اذا كانت لهدف انساني نبيل، وهذا ما لمِسَتْهُ في تضحية سيد الشهداء عليه السلام، فلقد ضحى الامام من اجل قيم نبيلة ومثل عليا هي ليست دينية او قومية او ما أشبه، أبداً، وإنما هي قيم إنسانية يعشقها ويتغنّى بها ويتمناها ويحرص عليها كل انسان بغضّ النظر عن دينه او اثنيّته او لونه او جنسه او حتى خلفيته الفكرية والعقدية والسياسية وما الى ذلك، انها قيم الكرامة والحرية والمساواة والعدل، فقال عليه السلام {ألا وإنّ الدّعي بن الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذّلة يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة من أن نؤُثر طاعة اللّئام، على مصارعِ الكرام}.
رابعاً؛ وتعظُم قيمة التضحية عندما يجود بها المرء عن قلّة ما في اليد، فان تعطي الفقير درهما وانت ثريٌ متمكنٌ فليس في الامر تضحية أبداً، اما ان تعطيه فلساً وانت لا تملك الا قوتَ يومِك، فتلك هي التضحية، وهذا ما فعله الامام الحسين (ع) فلقد بادر عليه السلام للتضحية وهم قليلون، فكانت تضحيته عظيمة وقيمتها كبيرة، فقال عليه السلام يحدثنا عن ذلك {الا وانّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر}.
خامساً؛ واخيراً، عندما تكون التضحية بأغلى ما عندك، فليس من التضحية في شيء ان توفّر الحياة لنفسك وتقدّم غيرك للموت، انما التضحية كل التضحية اذا تقدّمت الصفوف للتضحية ودعوت الآخرين لها، وهذا ما فعلهُ الامام الحسين (ع) فهو لم يجلس في خيمة القيادة يدعو الناس للتضحية، كما انه لم يُمسك أولاده ليحثّ الآخرين لتقديم اولادهم، ابداً انما قال لهم {نفسي مَعَ انفسِكم وأهلي مَعَ اهليكُم}.
وما اروع ان نتعلّم التضحية من كربلاء، فـ:
/ نبادر للتضحية عندما نؤمن بقضية.
/ لا نضحّي الا من اجل قضية مقدّسة وهدفٌ سام، شخصيّ كان ام عام.
/ لا نخجل من التضحية بالقليل، فان عدم التضحية اقل منه.
/ لا شيء نحصل عليه بلا تضحية، سواء على مستوى الفرد، او على مستوى الجماعة، فالتعليم بحاجة الى تضحية، كما ان الحرية تحتاج تضحية، وكذا الأمن والاستقرار الذي ننشدهُ اليوم للعراق في ظل الهجمة الإرهابية التي يتعرض لها من قبل التكفيريين القتلة، وان التضحيات الجسيمة التي يقدّمها أبناء القوات المسلحة وأبناء الحشد الشعبي، ما هي الا مصداق من مصاديق التضحية الحسينيّة العاشورائيّة الكربلائيّة التي سيستقر بسببها العراق باذن الله ويتعافى من العنف والارهاب.
/ وهذا هو الفرق بين تضحياتنا وتضحياتهم، فنحنُ نضحّي من اجل الحرية وهم يضحون من اجل العبوديّة، نضحي من اجل العزة والكرامة، وهم يضحون من اجل الذل والخنوع والخضوع، نضحي من اجل الحياة ويضحون من اجل الموت، نضحي من اجل الحق والعدل والنور، وهم يضحون من اجل الباطل والجور والظلام، نحن نضحي من اجل الحسين (ع) وهم يضحون من اجل يزيد، وكفى بذلك لنا فخراً ولهم ذلاً، لنا نجاحاً ولهم فشلاً، لنا رفعةَ رأسٍ، امّا لهم فرؤوسهم منكوسة.
https://telegram.me/buratha