كلّما اقتربنا من الواقع، ابتعدنا عن الفلسفة والأيديولوجيا، والعكس هو الصحيح، فكلما التصقنا بالفلسفة والأيديولوجيا، ابتعدنا عن الواقع {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}.
لقد صدّع الشيوعيون رؤوسنا، ايام معارضتنا للديكتاتورية، بالنظريات الاشتراكية فكانوا يبشّروننا بوطن سعيد لا مثيل له اذا ما سقط الطاغية الذليل صدام حسين!. اما (الاسلاميون) فقد رسموا لنا مستقبلاً زاهراً يحفل بالعدل والمساواة التي قالوا انهم تعلموا مبادئها من الامام امير المؤمنين (ع)!.
الليّبراليون الذين يسمون انفسهم بالعلمانيين وعدونا بأن يكون عراق ما بعد الطاغية باريس ثانية او طوكيو اخرى او أدنى منهما بقليل!.
وهكذا القوميون وبقية التيارات الاخرى، كلٌّ حاول ان يقنعَنا بفلسفته للحكم وايديولوجيته في الحياة، حتى اذا سقط الطاغية وتسنّم الجماعة مقاليد السلطة والحكم، اذا بهم جميعهم (خواجه علي ملّا علي) لا فرق بين الافندي والعِمّة، بين اليميني واليساري، بين الديني والعلماني، فكلّهم (حماميزُ الله) كما جاء في القصة المعروفة، هل سمعتم بها؟.
يُروى ان مجموعة من الأولاد كانوا يلعبون في ازقّة المحلة، وفي الأثناء نادى أبٌ على ابنه (يا عبدالله! يا عبدالله!) لم يُجبه ابنه، كرر النداء ولكن بلا فائدة، فاضطرّ ان يقترب منه ويأخذ بتلابيبه، قائلا له؛ ولدي! الم انادي عليك؟ لماذا لم تُجبني؟ ردَّ عليه الابن، يا أبتي! كلنا عبابيدُ الله، فمن اين لي انْ اعرفَ انّك تنادي عليَّ؟. بعد برهة من الزمن نادى الاخر على ابنه (يا حمزة! يا حمزة!) لم يُجبه ابنه، ذهب اليه وأخذ بتلابيبه؛ الم انادي عليك يا ولدي؟ لِمَ لَمْ تردّ عليّ؟ أجابهُ ابنه؛ ومن اين لي ان اعرف بانك تنادي علي؟َّ فكلّنا حماميزُ الله!.
تبيّن لنا ان كل التيارات هي (حماميزُ الله) لم تميّزهم لا فلسفة ولا ايديولوجيا ولا هم يحزنون، والتمايز زمن المعارضة كان للدعاية والنشر فقط، اما في السلطة، فلقد قدّمت كلها نموذجاً واحداً ربما هو الأسوأ في تاريخ العراق الحديث.
ينبغي ان يتعلّم العراقيون درساً بليغًا مفاده ان كلام النظريّات والفلسفات الفارغة والأيديولوجيا لا يُغني ولا يُسمن من جوع، انّما الذي يُغني ويُسمن هو الواقع فقط وفقط، فالكلام المعسول والنظريات التي يُسال لها اللعاب والفلسفات التي تطرب لها الآذان، ان كل ذلك مجرد كلام ليس عليه ضريبة، ولذلك يندفع اليه المتحدث بكل قوّة وشجاعة، امّا العِبرة فعندما يكون هذا المتحدث والمتفلسف مسؤولًا عن واقع، فسيكون هو قبل غيره اول المكتشفين انّ كلامه كان مثالياً ليس الّا.
فعندما يَكُونُ احدُهم مسؤولاً، فليحتفظ المتدين بدينهِ لنفسه، والشيوعي باشتراكيّته لنفسه، والعلماني بعلمانيّته لنفسه، وليتفق الجميع على ان يضعوا فلسفاتهم وأيديولوجياتهم في جيوبهم، او على الرفّ اذا شعروا بثِقلِ وزنها او كبَرِ حجمها، وليتوجهوا جميعهم الى الواقع المرير الذي يمر به العراق اليوم، وليجدوا لنا حلاً لمشاكله العويصة التي منها الارهاب والعنف والطائفية والعنصرية والفساد المالي والاداري والمشكلة الاقتصادية وانهيار الخدمات الاساسية، فهذه المشاكل لا تحلّها فلسفة ولا تحلّها ايديولوجية، انما يحلها شيء واحد فقط لا غير الا وهو (الغيرة) التي يندفع صاحبها لخدمة البلاد والعباد بكل صدقٍ واخلاصٍ ونزاهةٍ وايمانٍ ومثابرة.
العراق بحاجةٍ الى تيّار واحد فقط لا غير، الا وهو التيار الوطني الذي يضع مصلحة الوطن فوق كلّ المصالح، ومصلحة الشعب فوق كل المصالح، وأقول بصراحة، فان عيون القادة اليوم ليست على العراق وإنما على خارج الحدود، كلٌّ وانتماءه! وكلٌّ وخلفيّته! واسمحوا لي هنا ان لا استثني أحداً.
سنصفّقُ لمن يجد لنا حلا لمشكلة العنف والارهاب، من دون ان نفتّش في دينه، وسنصفّق لمن يجد لنا حلاً لمشكلة الكهرباء من دون ان نفتّش في عقائده، وسنصفّق لمن يجد لنا حلاً لمشاكل التعليم بكل مراحله من دون ان نفتّش في انتماءاته.
وإنّما نجح الخطاب الذي تقدّمه المرجعية الدينية العليا أسبوعياً على لسان خطيبَي الجمعة في الصّحن الحسيني الشريف في كربلاء المقدسة، كونه خطاباً وطنياً بسيطاً وواضحاً، ابتعدَ عن الفلسفة والأيديولوجيا، انّه خطابٌ قدّم مصالح البلاد والعباد على كل المصالح الضيّقة، كما انّه ابتعد عن سياسة المحاور، فقدّم خطاباً عاماً وشاملاً، استوعبَ الدولة بكلّ عناصرها، يؤشّرُ على الخطا حتى اذا كان عليه، ويُثني على الصّح حتى اذا كان لغيره، فهل سيتعلّم السياسيون من هذا الخطاب، فيضعوا، ولو لمدّة، خطاباتهم (الدينيّة) و (المذهبيّة) و (القوميّة) و (العلمانيّة) وكل انواع الخطابات الاخرى جانباً ليقدّموا لنا خطاباً وطنياً عاماً وشاملاً؟.
https://telegram.me/buratha