لم تنقطعْ علاقتي بالسيد بحر العلوم على مدى قرابة ربع قرن من الزمن، ولقد كانت اخر زياراتي له العام الماضي في منزله بالنجف الأشرف، والتي امتدت حوالي ساعتين لم نشعر بهما ونحن نتحدّث في مختلف القضايا، الأدب والثقافة، الدّين، المرجعيّة، السياسة، السّلطة، وفي كلِّ شيء، فلقد كان السيد موسوعة ليست علميّة ومعرفية فقط، وانّما كان كذلك مخزوناً هائلاً من الخبرة المتراكمة والتجارب، فلقد عاش السيد عدة اجيال اكتسب منها الخبرة واختزنها، ساعياً الى نقلِها من جيل الى اخر.
وعندما تجلس الى السيد تشعر وكانّك في حضرة أستاذ موسوعي لا تسأله عن شيء الا ويجيبك، ولا تسأله عن أحدٍ الا ويعرّفك به، فكان حديثه شيقاً جيداً. ومن حسن حظّي انّ علاقتي بالسّيد كانت قائمة على الثقة المطلقة، ولذلك كان يسُرّني كثيراً ويُفضي لي آلامهُ وآماله ومعاناته، فكنتُ اشعر وكأنّه يجد فِيَّ (البئر) التي يرمي في أعماقها أسرارهُ التي لم يشأ البوح بها، لثقته العالية بي، كلما حالفني الحظ في لقاءٍ به او زيارةٍ له، منذ ايام (صلاح الدين) وحتى النجف الأشرف. وللآن اذكر تلك اللّحظة التي انتفض بها من على أريكتهِ، عندما عرفني حقَّ المعرفة.
ففي ليلةٍ من ليالي (صلاح الدين) المُثلِجة، وبينما كنتُ أتمشّى في مقر (المؤتمر) في صلاح الدين، اقطعُ المسافات الممتدة بين المكاتب وغرف الإقامة، صادف ان مررتُ على مكتب السيد، وكان في زيارته الاخ الدكتور احمد الجلبي، وكانت بابُ المكتبِ مفتوحةٌ على مصراعيها، ربما أراد السيد بذلك ان يوحي للآخرين بانّ الاجتماعَ ليس سرّياً، فليس هناك ما يخفيه عنهم. مررتُ امام باب المكتب فسلّمتُ عليه من بعيد، فرد السيد الجواب، واذا بالدكتور الجلبي، يناديني بصوتٍ عالٍ؛ نـــزار نــــزار!.
نعم دكتور، أجبتُه.
تفضّل عند السيّد.
عدتُ عدّة خطوات الى الوراء ودخلت مكتب السيد، والذي نهض ليصافحني ويرحّب بي، طبعاً بشكلٍ رسمي، ان صحّ التّعبير، كونه عضواً في مجلس الرئاسة وانا عضوٌ في المجلس التنفيذي.
قال لي تفضّل، فجلستُ ثمّ سألني ان كنت اشربُ شيئاً من باب الضيافة.
عندها بادرني الدكتور الجلبي وطلبَ منّي ان أُعرّف نفسي للسيد.
فبدأت أُحدّثهُ، فعرّجت على العائلة وما الى ذلك، فذكرتُ له، في البَين، اسم الوالد، رحمهُ الله.
لم أُكمِل حديثي، اذا بالسيد يقفزُ، لحظتها، من مجلسه واقفاً، ثم سألني؛ أأنتَ حقاً ابن المرحوم؟!.
قلت لَهُ؛ وهلْ تعرفُه؟!.
تجاهلَ السيد سؤالي، ثم أخذني بالاحضان، وضمّني الى صدرهِ وكأنّه يضمّ اليه احدَ أولاده.
ثمّ راح يحدثُني عن علاقته التاريخية القديمة بالوالد وعن صلةِ القربى والدّم بيننا، ثم سألني بالتفاصيل عن اخبار عدد من الاهل والأقارب، الامر الذي أعادني الى الوراء سنين طويلة، لتقف في ذهني شاخصة، وكأنها حدثت أمس، صورة الوالد وهو يُخبرني بأنّه يعرف جيداً مؤلف الكتابين!.
ولقد بَنَتْ لحظات التعارف هذه علاقتي بالسيد على أساس الثقة، فكان يُعاملني ويتعامل معي وكأنّه احد أولاده، فلم تكن السياسية هي الوحيدة في هذه العلاقة، ولذلك كنتُ محطّ أسراره، وحديثه الصريح وآرائه الخاصة في مختلف القضايا. لقد تميّز السيد بحر العلوم بثلاث صفات كانت السبب الأساس في ان يكون نقطة التقاء جميع الفرقاء، حتى المتناقضين منهم. فلقد كنتُ اعتبرها (ثلاثيّة) التوافق بين الجميع، والتي كان يندر اجتماعها باحدٍ في تلك الظروف القاسية في حركة المعارضة العراقية.
الصّفةُ الاولى؛ الوطنيّة، فكان يرفض التمحور حول كلّ القيَم الضيّقة الاخرى، من منطلق مبدأ (العراق لكلِّ العراقيين). كما كانَ مستعداً للتضحية بكلّ شيء من اجل وطنه، حتى بسمعتهِ، وهي لمثله مهمةٌ جداً تتعلق بالاسرة والحوزة والعمامة، وكان يرفض المساس بمصالح البلاد ولا يقبل ابداً تقديم ايّة مصلحة لأي طرفٍ كان، سواء من القوى الإقليمية او الدولية التي دخلت على خط القضية العراقية، على مصالح العراق.
الصّفةُ الثانية؛ الوسطيّة، فكان ينبذ التزمّت والتطرّف والعنف والتخندق الحزبي واحتكار الحقيقة، ولهذا السّبب، ربما، لم ينتمِ الى حزبٍ معيّن ابداً، فالحزبيّة عندنا، اقصد في العالم الثالث وتحديداً في العراق، تساعد على تنمية هذه الأمراض في شخصيّة المنتمي لها، بغضّ النظر عن هويّة الحزب وخلفيته، فهي أمراض حزبيّة مشتركة!. وكنتُ أحياناً أُمازحهُ بالقول؛ سيّدنا لماذا لا تشكّل حزباً جديداً لننضوي تحت لوائه؟ فكان يجيبُني بكلّ جديّة؛ انّ ساحتنا لا تتحمّل وجود حزب وطني معيار الانتماء اليه المواطنة فقط. بغضِّ النّظر عن الدين والمذهب والإثنية والمناطقية، فكل أحزابنا هي إمّا دينية او مذهبية او إثنية، ولذلك لا تجد معنى للوسطية في ساحتنا وانما {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} يضيفُ السيّد. ولقد صدقت رؤية السيد بهذا الصدد، ليتحوّل مشروع المظلّة نَفْسَهُ (المؤتمر) الى حزب يتمحور حول شخصٍ واحدٍ كايِّ حزبٍ آخر!.
الصّفةُ الثّالثة؛ التعايش، فلقد كان السيد يؤمن إيماناً مطلقاً بانّ الحل لكل مشاكل المعارضة، آنذاك، والعراق فيما بعد، تكمن في ان يؤمن الجميع بمبدأ التعايش، فلا يُلغي أَحدٌ الاخر ولا يتجاوز احدٌ الاخر، كون العراق بلد متعدّد في كل شيء لا يمكن ان يستقرَّ ويهدأ ابداً الا بتعايش الكلّ مع الكلّ، ولقد جرّب كثيرون سياسات الألغاء والاقصاء فما جَنَوا الا الخيبة والفشل.
واليوم، وبعد عقودٍ من زمن المعارضة وأكثر من عقد من زمن السلطة الجديدة، اعتقد انّ العراق بحاجةٍ اليوم الى هذه القيم التي ذاب فيها السيد، وبذلَ كلّ جهده من اجل ان يحقّقها كواقعٍ ثقافي في المجتمع العراقي، وعلى مختلف المستويات وليس على مستوى العمل السياسي والسلطة فقط.
لقد خسِرَ العراق احد ابرز رموزه الوطنية، والذي حدد رؤاه عن تجربة وخبرة وليس تنظيراً ولغواً وانشاءً، كما يفعل كثيرون، ولذلك يلمس اليوم الجميع صحّة رؤاه.
فسلامٌ على الفقيد العلَامة الحجّة الدكتور السيد محمّد بحر العلوم، يوم وُلد ويوم جاهد ويوم توفي ويوم يُبعثُ حيّا عند مليكٍ مُقتدر.
https://telegram.me/buratha