ثمة مظاهر ثلاثة تؤشر حالة الركود او الانكماش الاقتصادي الراهن في العراق .فمعدلات النمو في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي مازالت تقدر باقل من 1% وان البطالة الاجمالية هي بنحو 28% من اجمالي قوة العمل لاسيما بين صفوف الشباب ، اما التضخم فهو الاكثر غرابة ، اذ ظل التضخم السنوي الاساس دون نسبة 2%على الرغم من تقلب سعر الصرف الذي زاد هبوطه على 12% مقارنة بالمعدل الرسمي المستقر والثابت لسعر الصرف ذلك لآسباب تقيدية فرضتها المادة 50 من قانون الموازنة الاتحادية للعام 2015 والتي الزمت البنك المركزي العراقي بتقييد مبيعاته من العملة الاجنبية وبسقف محدد لايزيد على 75 مليون دولار في كل يوم عمل. وقد ازيل اثر المادة 50 آنفاً بقرار المحكمة الاتحادية الذي صدر مؤخراً من العام الحالي الامر الذي ادى الى ارتفاع سعر صرف الدينار العراقي وتحسنه ليصبح على مقربة من سعره الرسمي وبفارق لايتعدى 5% في سوق الصرف ولاسيما خلال الاسبوع الاخير من شهر تموز 2015. وازاء التلازم الواسع بين مظاهر الركود ومتغيراته الثلاث (ارتفاع البطالة وانخفاض النمو وانكماش الاسعار) فان الاقتصاد العراقي صار محاطاً بظاهرة نقدية شديدة الغرابة وهي اقرب الى ظاهرة فخ السيولة Liquidity trap الذي يؤشره سلوك الطلب النقدي الشديد على الدينار والدولار معا ، مما ولد علاقة ارتباط بين سعر الصرف والمستوى العام للاسعار من خلال سعر الفائدة الحقيقي الموجب وهي علاقة تتعاكس مع ما كان عليه الحال في ازمنة التسعينيات التضخمية. فالعلاقة بين سعر الصرف والمستوى العام للاسعار هي شديدة الغرابة وتكاد تكون اليوم تحوطية Hedge في تطور سلوك سوق النقد نفسها ازاء الانتقال من فخ سيولة بالدينار الى فخ سيولة بالدولار.
ان الرجوع الى الازمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي وإبان تدهور الحساب الجاري النفطي يوم كانت الموازنة تتغذى برافعة مالية بديلة قوامها الاصدار النقدي التلقائي (عبر توسيع الدين العام الداخلي الممول بحوالات الخزينة مقابل الاصدار النقدي ومن ثم ارتفاع معدلات الطلب الكلي) فان توافر السيولة المحلية بافراط وقت ذاك قد عزز حالة الهروب من النقد صوب السلع خوفا من تحمل فائدة حقيقية سالبة وهو مايمكن تسميته بالتزاحم الداخلي Crowding in. وبهذا فان القوى الهيكلية المولدة للتوقعات التضخمية (ولاسيما قوى فائض العمليات - واقصد الربحية والريعية) تمتلك سلوكا مؤثرا في تحريك تلك العربة او الواسطة النقدية المتمثلة بقدرة المالية العامة على تمويل الموازنة بالتضخم او عن طريق الاصدار النقدي الفائق لمواجهة اوتعويض الاثار التضخمية الناجمة عن تدهور سعر صرف الدينار العراقي كقيمة خارجية للنقود وانتقالها المباشر الى الاسعار النسبية من السلع الاساسية وغيرها كافة ولاسيما الغذائية التي كانت تشكل 62 % من نفقات ميزانية الاسرة. وبهذا فان التوقعات التضخمية التي يولدها سوق الصرف تتحول الى قوى تضخمية فعلية يؤشرها ارتفاع المستوى العام للاسعار بمجرد نمو معدلات السيولة العامة المحلية من خلال الاقتراض الحكومي الرخيص (اي سياسة النقد الرخيص)
فاذا كانت ظروف التضخم الجامح في تسعينيات القرن الماضي على اقل تقدير هي نتاج قوى هيكلية تمتلك ادارة سعر الصرف كدالة مولدة للتوقعات التضخمية بتفاعل سوق الصرف وهيمنة العملة الاجنبية على حث النمو في مناسيب السيولة وعد التمويل بالعجز عن طريق الاصدار النقدي بمثابة عربة او واسطة تضخمية تقود الى انخفاض القيمة الداخلية للنقود ومن ثم ارتفاع المستوى العام للاسعار (اي حالة الهروب من النقد الى السلع) فان حالة الكساد الراهنة التي يعيش فيها الاقتصاد العراقي وازمة السيولة النقدية والميل نحو فخ السيولة كسلوك للطلب النقدي (فضلا عن الاستقلالية العالية للبنك المركزي العراقي) قد جعلت جميعها من اشارة سعر الفائدة الحقيقية الموجبة النقيض لاشارة المستوى العام للاسعار في ايجاد العلاقة الترابطية واثارها الارتجاعية بين التوقعات التضخمية وبين سعر صرف الدينار العراقي.
لذا لايمكن التخلص من فخ السيولة الراهن بدون ثمن. وان الثمن هو ارتفاع معدلات الفائدة الحقيقية باستمرار حتى وان كانت الفائدة هي الكلفة الفرصية في الانتقال الى فخ سيولة اخر بالعملة الاجنبية (ان مايحصل اليوم هو هروب نسبي من تملك السلع والسلع الاجنبية قليلة التفوق والمردود الى الاحتفاظ بالنقد كسلعة ذات مردود عالي يحمل اثر للثروة ومتسرب من سعر فائدة حقيقي موجب مرتفع) فارتفاع قيمة الدولار هو ثمن تعويضي للتخلي عن عائد مرتفع من الفائدة الحقيقية المتوقعة ازاء ارتفاع درجة فخ السيولة بالدينار (بعد غياب التوقعات التضخمية التي حلت محلها توقعات الفائدة الحقيقية الموجبة المرتفعة)
كما امست القوى الهيكلية المولدة للتوقعات التضخمية سابقا ، اي ان القوى الهيكلية ومعظمها قوى فائض العمليات التي تقدر اليوم نسبتها 83% من قوى الدخل الاجمالي ، اضحت لاتمتلك دالة مؤثرة ومولدة للتوقعات التضخميىة طالما ان عربة السيولة شبه غائبة،ولكنها تمتلك في الظرف الانكماشي الراهن(دالة مولدة لتوقعات ارتفاع سعر الفائدة الحقيقي الموجب) .وان جزءاً من الحركة الارتجاعية في تدني سعر الصرف للدينار ، تاتي لامحالة من كلفة تحصيل السيولة بالدينار لشراء العملة الاجنبية .وطالما ان هذه الحركة الارتجاعية مستمرة في صورة سعر فائدة (والتي تمثل كلفة تمويل شراء النقد الاجنبي بالدينار العراقي) فان الانكماش في المستوى العام سيستمر ربما الى امد اطول .كما ان ظاهرة تقلب سعر الصرف الفعلي سيظل قلقا ويخضع لفخ السيولة المحلية وارتفاع سعر الفائدة الحقيقي وهي الحالة التي تمت تسميتها مجازا بالمزاحمة الفائقة في ظل انكماش الاسعار Super crowding out .
2- انكماش السيولة العامة واستقطابها : مع هبوط الايرادات النفطية من متوسط شهري زاد على 8 مليار دولار في مطلع العام 2014 الى متوسط شهري لم يتعدى 4 ملياردولار ، الامر الذي اعاد هيكلة المصروفات الحكومية بما يؤمن الموازنة الجارية في الاساس ازاء توقف المشاريع الاستثمارية جراء عدم اقرار موازنة العام 2014 في حين ان الموازنة الاستثمارية للعام 2015 قد ارتهنت مشاريعها باتفاقيات الدفع الاجل ولاسيما الجديدة منها وهي عملية مازالت قيد الانجاز، ناهيك عن توقف غالبية المشاريع المستمرة وتعثر مستحقات المقاولين والمتعاقدين. وازاء هذه الضائقة المالية قدم البنك المركزي العراقي برنامجا تحفيزيا بنحو 17 تريليون دينار الذي اسهم من خلال عمليات السوق المفتوحة من فض جانب مهم من اختناقات السيولة المصرفية ومكن الموازنة على الاقتراض بحوالات الخزينة والقروض الاخرى عبر السوق. اذ بلغ اجمالي الدين العام الداخلي بنحو 25 تريليون دينار.
وبالرغم من ذلك ، فان ظاهرة فخ السيولة مازالت عالية اذ انخفضت مؤشرات الانفاق الاستهلاكي الخاص او الاهلي عن معدلاتها العالية البالغة 14 % من الناتج المحلي الاجمالي الى حوالي 4 % من ذلك الناتج. مما يعني ان الافراد يترقبون وضع مدخولاتهم النقدية بالامتناع عن الصرف والتمسك بدالة طلب نقدي عالية انتقلت الى مستوى مرتفع آخر متاثرة بارتفاع الفائدة الاسمية التي ولدها (عامل التزاحم الخارجي وانخفاض التوقعات اللاتضخمية) وان النظر هنا الى الارصدة النقدية للافراد (فخ السيولة) كأنها تراكم لفائض مستهلك غير منفق و يتم التحوط به لمواجهة حالة اللايقين ازاء الدخل المستقبلي وتعاظم الارصدة النقدية للافراد من خلال الفائدة الحقيقية الافتراضية المتوقعة ، ويمكنني ان اطلق على هذه الظاهرة مجازاً (بمقلوب كلفة الرفاهية جراء التضخم والتي تناولها استاذ الاقتصاد مارتن بيلي في بحثه الشهير في العام 1956) كما عظمت حالة التقشف التي خضعت اليها الموازنة العامة منذ اكثر من عام من توقعات فخ السيولة في الاقتصاد أخذين بالاعتبار ان النفقات العامة هي ملازمة للناتج المحلي الاجمالي و لم تقل هي الاخرى عن 55 % من ذلك الناتج. اما الجهاز المصرفي العراقي فهو الاخر قد خضع لسلوك حاد ومرتفع في الطلب النقدي ومن ثم الدخول في فخ سيولة مختلف. فالاقتراض الحكومي العالي الذي امتص معظم تدفقات البرنامج التحفيزي للبنك المركزي المشار اليه آنفا وهيمن على جل السيولة المصرفية المتاحة ، قد حول المصارف الحكومية الى مستثمر كبير في الاوراق الحكومية مقابل ميل ضعيف في منح الائتمان حتى لقاء فائدة عالية او مرتفعة تتناسب والفائدة الحقيقية التي تخضع لحالة اللاتضخم. وبهذا فقد غدت كلفة الائتمان مرتفعة بسبب ارتفاع الفائدة جراء (التزاحم الخارجي) في حين انكمشت المصارف الاهلية على سيولتها وبنحو فائق وهي سيولة معدة للتحويل الخارجي. وان اشارة الفائدة وكلفة الحصول على العملة الاجنبية صار يقتضي نقل كلفة الفائدة المصرفية الى العملة الاجنبية كثمن للتخلي عن فخ السيولة بالدينار العراقي ونقله الى فخ سيولة آخر ولكنه بالعملة الاجنبية ، في حين اضافت المصارف الامانات الضريبية البالغة 8 % والتي توقفت حاليا والتي عدتها في حينها بمثابة ضريبة تحويل خارجي على غرار ضريبة توبن( Tobin Tax ).وهو اجراء تحوطي بالاساس في سلوك المضاربين من موزعي المخاطر.
في ضوء ماتقدم ، فان ثلاثة افخاخ سيولة Liquidity traps يخضع اليها الاقتصاد الكلي وهو يتعامل بدالة طلب نقدي شديدة التاثر بتوقعات الفائدة الحقيقية الموجبة وهي فخ سيولة الافراد وفخ سيولة المصارف الحكومية كقوة تتمتع بالسيولة السيادية واخيراً فخ سيولة المصارف الاهلية التي تتمتع بالسيولة العائلية للقوى المالكة.
3-آلية الانتقال السعري والتوقعات:
تظهر حالة التعايش مع طورين مختلفين من الاطوار الاقتصادية (واعني الركود الاقتصادي الراهن الذي هو نقيض التضخم الجامح في العقد الستسعيني السابق) ثلاثة ظواهر عكسها اقتصاد العقد التسعيني التضخمي عن الوضع الانكماشي الراهن : اولهما يتمثل بتوافر عربة او واسطة من السيولة المحلية عملت على نقل توقعات هبوط العائد على النقود بصورة معدلات فائدة حقيقية سالبة بسبب التضخم والتوقعات التضخمية التي كان يولدها الطلب الفعال الناجم عن الاصدار النقدي. وثانيهما فان غياب الاصدار النقدي المرافق لآزمة السيولة او تقلصها حاليا ، اخذ يولد توقعات فائدة حقيقية موجبة تعظم من فخ السيولة المحلية. وثالثهما ، فان التخلي عن فخ السيولة المحلية صوب العملة الاجنبية يتطلب تعويضا مستقبليا يتمثل بنقل الفائدة الحقيقية الموجبة الى سعر الصرف في هذه المرة اي تخفيض الدينار تحت تاثير تعويض الفائدة (وكانما نقترض بفائدة لكي نشتري الدولار) وهنا تتحق حالة مزاحمة خارجية على العملة الاجنبية يمكن تسميتها بالمزاحمة الخارجية الفائقة(Super crowding out). فإن طور انفلات السيولة النقدية وتوليدها المرن عبر سياسة النقد الرخيص والتمويل بالتضخم في تسعينيات القرن الماضي قد اوجد رابطة قوية بين التوقعات التضخمية واداتها السيولة المتولدة عبر الانفاق العام من جهة وارتفاع المستوى العام للاسعار من جهة أخرى و بأثار ارتجاعية تداخلت فيها الاسباب بالنتائج. حيث ظلت اشارة الفائدة الحقيقية السالبة ترسل توقعاتها التضخمية من خلال المستوى العام للاسعار وتحت تاثير الاداة الناقلة او العربة الناقلة وهي قوة الاصدار النقدي وتطور نمو عرض النقد والتمويل بالعجز ازاء دوال للطلب النقدي المتجهة نحو التخلي عن السيولة وتعظيم سرعة دوران النقود و المضاربة بسعر الصرف الذي ادى الى هبوط الدولار بمقدار ارتفاع التوقعات التضخمية او معدلات الفائدة الحقيقية السالبة . وبعبارة اخرى فان تعاظم الانفاق او الطلب الكلي للافراد مع تعاظم التمويل بالاصدار النقدي او التمويل بالتضخم في الموازنة العامة ، برزت ظاهرة تزاحم داخلي Crowding in متمثلة بالتخلي عن النقد لمصلحة السلع وحيازتها .وهي حالة اضحت تناسب سلوكا نقديا يكون الطلب النقدي فيها عكسيا مع التوقعات التضخمية بسبب الدور الذي تؤديه اشارة (الفائدة الحقيقية السالبة) في كازينو المضاربات على تدهور اشارة سعر الصرف المستمرة وهو سلوك وتصرف يعد شكلا من اشكال المضاربة ويمكن ان نطلق عليه بالتزاحم الداخلي الفائق (Super crowding in)
اما حالة الانكماش الراهنة فقد اوجدت علاقة اقتصادية مختلفة تماما عن مرحلة انفلات السيولة والتمويل بالتضخم ، اذا يؤدي سلوك الطلب النقدي (المتمثل بارتفاع فخ السيولة) والمقترن بعلاقة موجبة مع سعر الفائدة الحقيقي الى نقل منافع تلك الاشارة بصورة فائدة حقيقية متوقعة ومن خلال السيولة المتاحة من مجال سعر الصرف الى سلوك النقد اي فخ السيولة بالعملة الاجنبية. اخذين بالاعتبار ان الفائدة قد امست جزءاً لايتجزء من تركيب سعر الصرف. وانها عنصر متسبب بانخفاض سعر الصرف للدينار العراقي نفسه ، فالانتقال من العملة المحلية الى العملة الاجنبية (ضمن الحركات الارتجاعية اللاحقة) يعني التضحية بفخ السيولة المحلية ، وان ثمن التضحية هو نقل اشارة سعر الفائدة الحقيقية الموجبة الى سعر الصرف وباتجاه معاكس اي من فخ السيولة المحلية بالدينار الى فخ السيولة بالعملة الاجنبية سيكون بفارق يتمثل بنسبة خصم تحوطية قيمتها تساوي معدل الفائدة الحقيقية الموجب نفسه (اي ثمن التخلي عن فخ السيولة المحلية لمصلحة فخ السيولة الاجنبية. وان ثمن الفائدة الحقيقية الموجبة وانتقالها الى سعر الصرف هو ثمن التخلي عن فخ السيولة المحلية. انه تزاحم خارجي فائق كما ذكرنا انفاً في ظروف انكماش اقتصاد شديد الريعية ، اذ تبدلت فيه الاشارات السعرية (من فائدة حقيقية متوقعة سالبة ابان الافراط النقدي الى فائدة حقيقية متوقعة موجبة في زمن الانكماش النقدي) محققة العلاقة السببية بين سعر الصرف وتوقعات المستوى العام للاسعار. بعبارة اٌخرى ، فمثلما حلت توقعات الفائدة الحقيقية الموجبة محل التوقعات التضخمية (اي الفائدة الحقيقية السالبة ابان مرحلة الافراط النقدي) فان اختفاء عربة السيولة او النقد الرخيص (السنيوريج) وازدهار فخ السيولة وشيوع الانكماش في هذه المرة مع بقاء البنك المركزي مستقلاً عن الحكومة والتمسك بكونه ليس هو الرافعة المالية في تمويل الموازنة بالنقد الرخيص او البديل في تمويل الدين العام الداخلي دون المرور بالسوق النقدية ، اكدها ثبات نمو النقود و بطيء تكاثرها (نسبة الى ناتج محلي) وهي صورة آخرى مختلفة في سلوك المدرسة النقودية في الاقتصاد عند وصف ميكانيكية الانكماش كمقلوب للتضخم .
3-الاستنتاجات
ثمة استنتاجات اساسية افرزها ميدان العمل الاقتصادي عند تشخيصه مرحلتين مختلفتين من مراحل التضخم والانكماش التي مر بها التاريخ الاقتصادي القريب للعراق. فقد اظهرت المرحلة التضخمية الاولى ابان الحصار (الاقتصادي) على العراق في تسعينيات القرن الماضي والسنوات القليلة اللاحقة ، ان اشارات الفائدة الحقيقية السالبة (المتوقعة) التي كانت ترسلها السوق النقدية وخصوصا سوق الصرف تتحول حالاً ومن خلال عربة الاصدار النقدي (المستمر) الى توقعات تضخمية حادة (يشهدها المستوى العام للاسعار) بعد ان تتخللها تغيرات حادة في الاسعار النسبية. كما تتحق اثار ارتجاعية فورية تتجه من (ارتفاع) في الفائدة السالبة الفعلية الى حالة (انخفاض) فعلي في سعر صرف الدينار العراقي ، اي ان سعر الصرف يتقلب في انخفاضه او في ارتفاعه عكسيا مع التقلبات الفعلية في مستوى الفائدة وهو شكل من اشكال المضاربة السعرية الناجمة عن توقع انخفاض سعر الصرف تصاعديا.
وهكذا شهدت البلاد قفزات تضخمية حادة بلغت بالمتوسط مرتبتين عشريتين على مدار اكثر من عقد من الزمن وبواقع 50 % سنوياً. اما مرحلة الكساد الراهن،وفي ظل ظاهرة تعاظم فخ السيولة ، فان دور العربة الناقلة قد اختلف كثيرا وتحولت البلاد من التضخم الى الانكماش. فسوق النقد ترسل اليوم باشارات لسعر فائدة حقيقي موجب (متوقع) الذي يتحول الى توقعات انكماشية في الاسعار (ولاسيما على صعيد المستوى العام للاسعار) فكلما يتزايد فخ السيولة ترتفع كلفة التمويل بالدينار العراقي ، وهي حالة تقاوم حدوث ارتفاعات سعرية بسب شحة السيولة النقدية نفسها ولكن تجد دلالتها في ارتفاع الفائدة الحقيقية الموجبة. وان الاثر الارتجاعي (الفعلي) لاشارة الفائدة الحقيقية الموجبة ستتحول الى سوق الصرف ، اذ يُخصم سعر صرف الدينار بالنسبة التي ترتفع فيها الفائدة جراء التخلي عن فخ السيولة المحلية ونقله الى فخ السيولة بالعملة الاجنبية وهو في هذه الحالة شكل من اشكال التحوط Hedge ، ولكن من دون ان يشهد المستوى العام للاسعار اي تقلب يذكر باتجاه الارتفاع. فكلفة انخفاض سعر صرف الدينار في المرحلة الانكماشية هي ثمن التخلي عن السيولة بالدينار والحصول على سيولة بالعملة الاجنبية محملة بفائدة سيولة بالدينار. اي ان سعر الصرف سيحمل تكاليف فرصية لعائد عالي محتمل او متوقع يمثله سعر فائدة حقيقي موجب انتقل اثره من الدينار الى الدولار كفخ سيولة آخر بالعملة الاجنبية يضاف الى قيمة الدولار المتحصل وهذا ماتمت تسميته بالتزاحم الخارجي الفائق الذي يساوي اليوم سعر فائدة السياسة النقدية البالغة 6% مطروح منه التضخم الاساس البالغ 1.6% والذي يعادل اليوم تماماً فروقات سعر الصرف بين السوق المركزية والسوق الموازية.
ختاما ، اذا كان سعر الصرف في اوقات التضخم الجامح هو من يبعث باشارة التوقعات التضخمية (بشكل فائدة حقيقية سالبة) من خلال عربة الكتلة النقدية وتزايد الاصدار النقدي وتمويل الموازنة بالعجز ومن ثم تدهور سعر الصرف ، فان سعر الصرف في ازمنة الانكماش الاقتصادي والتمسك بفخ السيولة ، سيرسل اشارات سعرية مختلفة عن المرحلة السابقة وهي اشارة (اسعار الفائدة الحقيقية الموجبة المتوقعة) وهو الامر الذي يعظم من فخ السيولة المحلية ويقوي الطلب على الارصدة النقدية لتحقيق مايسمى مجازاً بفائض المستهلك المحتمل او المتوقع(حسب نظرية مارتن بيلي) وهو سلوك فردي يأتي لتعظيم شيء من الازدهار جراء التمتع بالسيولة المتوقع ارتفاع قوتها الشرائية وقيمة العائد عليها. اي ان واقع الحال الانكماشي يؤشر بلوغ حالة هي (مقلوب) نظرية مارتن بيلي (القائمة على احتساب كلفة الرفاهية الناجمة عن التضخم) والمقلوب هنا من وجهة نظرنا يمكن تسميته في هذه الحالة (بمكاسب الرفاهية الناجمة عن الانكماش) كسلوك مختلف في الطلب النقدي للافراد (وهو عكس كلفة الرفاهية الناجمة عن التضخم في الادبيات الاقتصادية السائدة).(**)
(*) المستشار الإقتصادي لرئيس الوزراء العراقي
(**) ثمة رسالة ماجستير متميزة ومهمة للانسة نجلاء شمعون جلبي/ تناولت للمرة الاولى كلفة التضخم على الرفاهية في العراق – الجامعة المستنصرية / 2015
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 27/7/2015
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha