في كل جماعة او امة او دولة، وفي كل مرحلة او ظرف هناك من يمثل عصب البلاد وحاميها وراعيها.. ولقد بنى ابن خلدون نظريته السياسية على مفهوم العصبية التي تلعب لديه دور الملكة في مملكة النمل او النحل، ان ضعفت او تلاشت فلابد من بناء مملكة جديدة بملكة جديدة.. فهي قد يمثلها اهل الحل والعقد، او الخلافة والامامة، او حزب الطبقة او حزب التأسيس والطليعة او الاباء المؤسسين او الجيش الحامي للدستور، الخ.
فلكل نظام من يحمل شرعيته التي تطورت عبر التاريخ وفي ظروف محددة، والتي وصلت اليوم في الكثير من دول العالم الى النظم الانتخابية القائمة على نظام ديمقراطي تقبل بمؤسساته واحكامه الخاصة والعامة على حد سواء. ولاشك ان هذا تطور كبير في الممارسة السياسية وهو وليد تجارب عالمية كبيرة. رغم ذلك تبقى هناك روح او يبقى هناك عصب حاكم حامي لمجمل النظام وتاريخه وتقاليده ومسارات مستقبله.. فهو الاسلام والتقاليد الشرقية، وهو الرابطة القومية او رابطة الدم.. وهو اليهودية او المسيحية، وما افرزته وتفرزه في الحياة من نظم وتقاليد وعادات تتلخص بها روح البلاد.. وهو نمط الحياة الامريكية The American way of life، وقس على ذلك من مفاهيم وعادات وتقاليد في مختلف الدول والامم تمنع من انتهاك هذا العصب او هذه الروح، امام موجات تحاول اختراقها وانتهاكها.
وفي العراق برهنت المرجعية انها تمثل عنصراً اساسياً -بجانب عناصر اخرى- لهذه الروح.. ليست لانها شيعية تناغم احاسيس الاغلبية الشيعية في البلاد، كما تتهم احياناً، بل لانها ذات نظرة شاملة لا تحمل معها اية مصالح خاصة مادية او دنيوية. لذلك تميل مع الحق الديني والوطني والانساني اينما كان.. وتقف مع المظلوم ضد الظالم حتى وان كان من ابناء جلدتها او مذهبها. لذلك وقفت مع العثمانيين ضد الانكليز واعلنت ثورة العشرين التي هي ثورة كل العراقيين.. وتعاملت مع الحرب ضد الاكراد واعلنت فتواها المشهورة بحرمة قتالهم رغم انهم من مذهب اخر، في حين دعم بعض وعاظ السلاطين من مذهب الحاكم بحلية مقاتلتهم. وهي التي منعت بعد 2003 اية اعمال انتقام ودافعت عن مبدأ ان يقتص القضاء والقضاء فقط ممن ارتكب اعمالاً اجرامية، حتى بحق اولئك الذين قتلوا واعتقلوا كبار المراجع والعلماء وزجوا بهم في السجون.. وهي التي وقفت ضد تحويل معركة الارهاب والقاعدة وبقايا النظام السابق الى معركة طائفية.. فقالت كلمتها المشهورة انهم "انفسكم" وليسوا اخوتكم فقط. وهي التي وقفت ضد اخطاء بعض الحكام الشيعة وانحرافاتهم ولم تتستر عليهم.. وهي التي انقذت البلاد من "داعش" بفتواها الجهادية المشهورة.. وهي التي تقف اليوم دفاعاً عن المحرومين والمظلومين، وتطالب بالاصلاح، وتقول انها لا تتدخل في التفاصيل بل تعطي توجيهات عامة لحماية مصالح الناس.
فبرهنت المرجعية الى يومنا هذا انها تمثل روح الامة وعصبها الحساس، وهي جامعة وحدتها. وهي لا تفرق بين مواطن واخر الا بمدى خدمته للناس. انها بحق الاكثر شجاعة وعدلية وفهماً واحاطة للظروف المحيطة، وهي الاكثر تمتعاً بالاحترام والقبول ليس من قبل العراقيين فقط بل من قبل العالم اجمع ايضاً.. وهذا امتياز كبير يتمتع به العراق بكل قومياته ومذاهبه ومدارسه.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha