وجهتا نظر تقول الاولى باننا امام ازمة حقيقية ستولد فراغاً سياسياً لا يعرف احد كيف سيتفجر، وان لا حل لها سوى باصلاحات تشريعية وسياسية واقتصادية وامنية تسير في الخط الطولي لحماية الدولة ومشاركة القوى السياسية وتعبئة الشعب في الحرب ضد "داعش"، الخ.. وهي وجهة نظر نتبناها، سماها البعض بـ "الترف السياسي".. ووجهة نظر اخرى محترمة تقول باننا بحاجة "لاستشعار حقيقي لازمة محدقة بالدولة"، و"باننا في ازمة حقيقية بسبب بناء العملية السياسية على اساس طائفي وغياب الرؤيا لدى الشيعة باعتبارهم المكون الاكبر".. "نحن في ازمة حقيقية بسبب حالة القلق لدى الاسلام السياسي الشيعي من 2003 لحد يومنا هذا، كون التغيير تم بارادة خارجية ولم ينبثق من الداخل، وبقي العامل الخارجي ضاغطاً".. "نحن في ازمة حقيقية لاننا وبعد مرور 13 سنة ما زلنا نقول النظام السابق والعملية السياسية الحالية، ولم نستطع ان نرتقي بادائنا لنكون نظاماً جديداً".. "فالازمة الحالية وما اوصلنا اليه البلد بحاجة الى ثورة حقيقية وانتفاضة لا تركن الى الوسائل التقليدية التي كنا نعتمدها طيلة الـ13 عاماً المنصرمة".
فاين الاختلاف بين النظرة الترفية والاستشعارية، ذلك ان تجاوزنا بعض الخلافات في التوصيفات اعلاه؟ الاختلاف، ان الاولى تقول بالاصلاح عبر الدستور والقانون والمؤسسات والقوى السياسية المتصدية المستندة لارادة الشعب عبر الانتخابات او وسائل التعبير الديمقراطية.. والثانية تقول بالثورة والانتفاضة وعدم الركون للوسائل التقليدية. وهنا سيطرح سؤال اساس.. من سيقوم بالثورة والانتفاضة، وماذا يستهدف؟.. سيقال الشعب. لكن الشعوب لا تنهض بمفردها، بل تستنهضها قوى منظمة، او تنتظم خلال الثورة والانتفاضة.
فهل المقصود ثورة في الصف الشيعي فقط، ام في العراق كله؟ فاذا كان سينحصر في المكون الاكبر، فان النقاش سيأخذ ابعاداً طائفية وفيه مشبوهيات كثيرة، نتفق جميعاً اننا نريد الابتعاد عنها. لذلك لن يكون هناك مبرراً للثورة والانتفاضة ان لم تكن عراقية.. وهنا لابد من التساؤل.. من سيقود الثورة في كردستان وماذا سيستهدف؟ اتقودها القوى المعروفة الحالية؟ ام قوى مجهولة غير موجودة؟ وما هو الهدف؟.. استقلال كردستان؟ ام الاصلاحات وتقوية الاواصر مع بغداد؟.. الخ. ومن سيقود الثورة في المناطق الغربية؟ هل سيقودها "داعش"، ام "البعث"؟.. ام القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية، والتي دفعت ثمناً كبيراً في محاربة الارهاب و"داعش"؟.. وماذا ستستهدف؟ تأسيس نظام جديد على انقاض النظام الحالي؟ ام تأسيس اقليم، او اقاليم وفق الدستور؟ واخيراً وليس اخراً، فعند الكلام عن الثورة والانتفاضة في مناطق المكون الاكبر، فلابد من الاجابة عن اسئلة اساسية.. اذ كيف سنتخلص من القوى الكبيرة الحالية التي تمسك بمقاليد الامور، وهي التي جاءت كغيرها عبر الانتخابات.. هل سننقض عليها "ثورياً" او "انقلابياً" لنؤسس سلطة جديدة، لا تستطيع ان تدعي اية تمثيلية شعبية سوى استثمارها لغضب مبرر او غير مبرر، لا يمكن مجرد ركوب موجته واكتساب مشروعية جدية بمجرد ادعاء تمثيل الشعب، كما كانت تفعل البيانات رقم (1)... فمن هي القوى "الثورية" البديلة؟ وهل برهنت عن كفاءات وقدرات وخبرات تؤهلها لحل الاشكالات المعقدة في البلاد؟
هذه اسئلة ومواقف تقود لتفجرات هائلة يصعب احتوائها. ويكفي ان ينظر المرء لما يحصل في بلدان محيطة بنا، بدأت لتوها مرحلة 2003، وما زالت في بداية دوائر ازمة التعطلات والمفاسد والجيوش الاجنبية والطائفية والمناطقية والانقسامات والدمار والخراب، الخ.. بينما يخرج العراق من دوائر عديدة للازمة ليدخل في دوائر عديدة للحل.. بدستوره وبرلمانه وحكومته وانتخاباته واقتصادياته والمشروعية الدولية وقواه الرسمية والشعبية والتوافقات الوطنية ووحدة كل الشعب والمكونات ضد "داعش" والكثير من الامور الاخرى، التي لا تقلل نواقصها وعثراتها من كونها مكتسبات يمكن ان يؤسس انطلاقاً منها لما هو افضل. لذلك نقول ان الاصلاح من رحم المؤسسات والعملية السياسية هو اكثر عملية، بل "ثورية"، من طرح موضوع الثورة والانتفاضة، دون توفر شروطها. فدعوات الهروب الى الامام ورفع الشعارات العالية السقوف، بدون الاستناد للوقائع والقوى الحاضرة فعلاً، وليس المجهولة، قد يفجر كل شيء، ويتركنا امام فراغ حقيقي، لن يملىء سوى بالفوضى والعنف والعودة للوراء.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha