واثق الجابري
إقترب العراق كثيراً من تحقيق النصر على الإرهاب، وتحرير الأراضية المتبقية من داعش، والتكهنات في مجملها على ضرورة إيجاد حلول إستراتيجية لمرحلة ما بعد الموصل، ويتفق معظم العراقيون أن لم يكن كلهم؛ على أن الفكر لا يمكن القضاء عليه بالسلاح، وأن البنادق لا تبني الأوطان، وأن الرصاص يُشترى بالبترول، والحروب مهما طالت فلابد من نهاية، والدبلوماسية والحرب وجهان لعملة مصالح الشعوب؛ وتعثر الدبلوماسية يؤدي الى الصراعات، والصراعات لا تنهيها إلاّ الحوارات وتقارب الأفكار؛ سيما تلك التي تحمل في طياتها دوافع فكرية؛ إلاّ الفرق كبير الحديث وأنت منتصر أو كلامك وأنت منكسر،الأولى تُملي شروطك والثانية يُملى عليك.
تخلصت دول كثيرة من الصراعات الطائفية والقومية بالتسويات التاريخية؛ بدءاً من اوربا ومروراً بنلسون مانديلا؛ الى الصراعات القبلية والعنصرية.
يحدثنا التاريخ عن قصص عالقة في مخيلة الشعوب، تتحدث عن السلام والحياة الإنسانية والحكمة، وأن الحوار كزورق نجاة تعبر بها الأمم الى ضفاف البناء وحماية شعوبها، فأن كان الفعل صاخباً فهو كالمد الذي يتجاوز حدوده ويحطم من يقف بطريقة، وسرعان ما يزول ولا يترك خلفه إلا الخراب، وتتخذ الشعوب في تعليم ابناءها على دراسة سِير من سبقها من شخصيات؛ أبعدت شبح الحروب والنزاعات القومية والطائفية، وفي العراق معاناة حروب وحصار ومقاطعة دولية؛ نتيجة لحروب عبثية وتصرفات طائشة، ومخلفات الظلم إمتدت الى تجذير الإرهاب والعنف.
عند الحديث عن الشواهد التاريخية، لا نذكر بخير أولئك اللذين فرضوا سلطتهم بالقوة، لذلك فأن معظم الشعوب ترفض الفاشية والنازية والقومية والطائفية، والإدعاءات التي تفترض إنتشار الإسلام بالسيف وجز الرقاب، وما آل له الواقع من تطرف؛ إلاّ لصراع بين نظرية تؤمن بأن الأديان جاءت للمحبة والسلام ونشر العدالة الإجتماعية، والآخر لا يؤمن بالآخر وينفي أمثلة التسامح والتعاطف وقبول الرأي الأخر وعدم مصادرة الأفكار؛ فما كان من هذا الفكر إلاّ جزار يذبح على الهوية.
تقول تجارب المسلمين من رسولهم الأعظم، وعند فتح مكة اعلن يوم المرحمة وصيانة الحُرمة، ومن دخل دار العدو ابو سفيان آمن والنتيجة دخول الناس الى دين المحمدي أفواجاً، وعندما نقول أن نلسون مانديلا إستحق جائزة نوبل للسلام؛ فهو نتيجة تكابره على عذاباته ومصالحته لأعداءه، وكذلك المهاتما غاندي؛ عندما أنتزع الهند كأكبر مستعمرة لبريطانيا بالعقل دون إستخدام سلاح.
إن الحديث عن ما بعد الموصل يحتاج الى حكمة وعقل ودراسة الواقع بعين المصلحة الوطنية، وأن الإرهاب جاء بفكر وأن كان منحرف فله معتنقيه ومن يعتقدون أن قتل الأبرياء أفضل سُبل العبادة، لذلك مازرعه لا ينتهي بالسلاح دون مصالحة مجتمعية، وإستثمار التقارب بين القوى وأتفاقها على أن داعش لا يفرق بين الطوائف والقوميات، ولا رابح من فرقة مكونات العراقيين إلاّ الإرهاب، وبما أن المدن التي إحتضنت داعش لفترة أصبحت رافضة طاردة؛ فهي قوى ضاغطة على ساستها للتقارب الوطني ومنع التشرذم، وسترفض قبل الآخرين من تورط بالإرهاب.
النصر على الإرهاب لا تكتمل ملاحمه؛ دون وجود تقارب بين القوى؛ بصيغ تسويات ووثائق بشرط أن تكون الأطراف؛ تنظر الى ما بعد التل الأسود الذي خلفه داعش.
يقف العراق في مفترق طريقين، وأما الجلوس للحوار والنقاس والتفصيل والمصارحة وإيجاد قوانين مرحلية لمرحلة الإنتقال الى ما بعد داعش، وإلاّ ستجد المجاميع الإرهابية سعة من الراحة للتجذر وتفعيل خلاياها النائمة، وستعيد الدول الداعمة للإرهاب تنظيم تلك المجاميع، وهنا أما أن تتبع القوى سياسة الأحتواء والتنازل المتبادل، مع معاقبة من أساء أشد العقوبة ومنعه من العمل السياسي، وأما الذهاب الى طريق لا عودة لعراق موحد، ومن أجل الوفاء لتلك التضحيات التي لبت نداء مرجعيتها الدينية والوطنية، وهدفها إرساء السلام؛ لابد من فعل سياسي يكمل قراءة المستقبل بواقعية؛ وإلاّ ستُعاد تجربة عدم إستثمار الصحوات العشائرية، والنتيجة كانت خلايا إرهابية نائمة بين ظهرانية الساسة، ويطلّون على الأبرياء بمفخخاتهم بعد كل أزمة؛ إذن الازمات السياسية جزء من ذرائع الإرهاب أن لم تك سبب له، وبذلك لا حلول إلاّ بتسويات وطنية ومجتمعية، وبالبنادق وحدها لا تستطيع بناء الأمم، وغير ذلك مجتمع متفكك يسمح لنمو جيل أسوأ من داعش وأكثر إنتشار.