عزيز الابراهيمي
ثالوث الدين , القانون, الاعراف, هو الحاكم للمجتمعات والمعطي بتفاعل عناصره هوية ابناء ذلك المجتمع وثقافتهم, وارثهم الحضاري, والكاشف عن مسارات مستقبلهم, وبصرف النظر عن اسبقية اي من تلك العناصر, ودوره في خلق الاخريات, الا ان وجودها معا اصبح من بديهيات علم الاجتماع, وهي قد تتكامل فتنتج حالة من الاستقرار والوئام, وقد تتعارض او يطغى بعضها على البعض الاخر.
الحالة المثالية للدول المستقرة هي سيادة القانون الصالح, الذي لا يتعارض مع اعتقادات الناس الصحيحة, واعرافهم المقبولة, ولكن ماذا عن تلك الدول التي تشهد عدم استقرار في اوضاعها الامنية والاقتصادية وتراجع مخيف لسطوة القانون وفساد القائمين على تطبيقه؟ لا شك ان تلك الدول في واقعنا المعاصر ليست بالقليلة, فكيف السبيل الى ردم هوة تراجع القانون وما دور اديان الناس واعرافهم؟.
ندعي ان دور الاعراف يفوق دور الدين في ايجاد حالة من الضبط الاجتماعي, وذلك لان الالتزام بالتعاليم الدينية منوط بالمتدينين, ورغم قلتهم فهم على خطر كبير من استمرار شعور التدين لديهم, ويكفي لمن لا يقر لنفسة بالتدين أن يخالف التعاليم الدينية ثم يمارس نشاطه الاجتماعي, بدون ادنى خوف من نبذ المجتمع له, لان الاعراف لا تجعل من تلك المخالفة عارا ينغص على حامله العيش الكريم, وقديما قيل (الموت اولى من ركوب العار).
العراق في زمن الملكية كانت اعراف النزاهة والترفع عن المال العام هي السائدة الى حد ما, وقد استمرت سطوة تلك الاعراف حتى زمن البعثية الذين ضربوا بكل عنجهية اي ثابت ديني او عرفي, يروى انه اهدي لنوري سعيد خيول من فصيلة ممتازة, فأضافها الى كتيبة الخيالة ليتم العناية بها, وعند زيارته لها صرف من جيبة دينار ونصف ثمن العلف, وعلق بعد اعتراض المسؤولين هناك, (العلف من فلوسي ويجوز ما اسلم من الحجي ) وهذا يدل على سطوة الاعراف على سلوك الرجل, وكم من الشواهد في عهد الملكية, وما هالة الزهد التي اضفاها انصار الجمهورية على عبد الكريم قاسم الا حالة طبيعية لسطوة الاعراف والتي لم يكن لعبد الكريم ان ينفلت منها, بل ان الامر استمر حتى بعد الانقلاب عليه, حيث يروى ان عبد السلام طالب بتشريع يزيد فيه راتبه كونه لايكفيه, من دون ان يستخدم سطوة السلطة التي كانت بيده, وليس ذلك لقوة القانون في زمانه, حيث الانقلابات, ولا لتدين الرجل حيث الدماء التي اسالها في انقلابين, بل لقوة الاعراف الحاكمة على سلوك اهل السلطة في زمانه وعدم رغبته في الانفلات منها.
ميزة الاعرف انها تخضع لارادة المجتمع في التجديد والاضافة, فاذا اتفق الناس على نبذ الفاسدين, الذين تنفجر جيوبهم بعد اكتساب المواقع, او مقاطعة القضاة الذين يجبنون عن محاكمة كبار الفاسدين, ويتراخون عن تطبيق امضاء العقوبات الا على الصغار, فكانوا مصداق الحديث الذي تضمن حكاية عن حال السابقين الذين يقيمون الحد على الضعيف ويتركوا الشريف ذو الشأن والمكنة, واذا كان تقييم المجتمع للنائب على اساس الوعي والهمة في تشريع القوانين, ومراقبة الاداء لا على اساس الكلام الفارغ الذي يتقيئه كثير من النواب على شاشات التلفزيون, فأن اثر ذلك على الواقع يفوق آلاف الخطب المطولة التي توصي بالتقوى والورع.
لاشك ان صناعة اعراف حسنة يتطلب وعي كبير من قبل شيوخ العشائر, وخطباء المنابر, والمثقفين, واساتذة الجامعات, والطلبة, والاعلاميين, الا ان ذلك ليس بالامر المستحيل لمن اراد تحمل مسؤولية بناء دولة, يسود فيها القانون الذي يخشى الجميع من مخالفتة, لوجود روادع ثلاثة هي العقوبات القانونية, والاعراف الاجتماعية, والجزاء الاخروي.
https://telegram.me/buratha